هؤُلاء المبدعون “المرضى”
هنري زغيب*
غالبًا ما نُعجَب من عمل فني نراه أَو نشاهده أَو نسمعه، يكون طالعًا من حالة نفسية مريرة يعانيها مبدعه، كأَنما عمله الفني علاجُه مما يعانيه، أَو دواؤُه للشفاء من مرارة حالته أَو انهياره العصبي.
في هذا المقال نماذج من أَربعة فنانين كبار كانوا ضحايا انهيار نفسي أَو اضطراب عصبي أَو قلق وجودي أَو عادة سيئة، ومع ذلك أَنتجوا روائع خالدة تركُوها هدايا خالدة في تاريخ الفن التشكيلي فهنئَ الفن بهم وغابوا خلف ما كان ينقصهم من هناءة.
- فنسنت فان غوخ (1853-1890)
قد يكون، عدا إِبداعه الفني الفريد، أَكثر الفنانين شهرةً من حيث مرضه النفسي الذي ظل ينهشه حتى أَدَّى به إِلى الانتحار. كان يعاني في حياته القصيرة من قلق دائم واضطراب متواصل وانهيار أَعصاب مرير، حتى أَنه كتب مرة في رسالة إِلى شقيقه تيو: “أَضع في لوحتي قلبي وروحي، وأُضيع عقلي فيما أَرسم”. وهو ما يظهر فعلًا في لوحاته، مناظرَ أَو طبيعةً صامتة أَو رسومًا ذاتيًّا. وضربات ريشته على اللوحة بأَلوانها وخطوطها، لا تدل على اضطراب في عقله بل على موهبة نادرة عجيبة. لم ينجح تجاريًّا ببيع لوحاته، لأَنه كان منصرفًا إِلى الرسم في إِيقاع محموم، والمرض النفسي ينهشه في شكل محموم، والفقر يرعبه في شكل محموم، ولم تندلع شهرته إِلَّا بعد سنوات من وفاته حتى بات اليوم من أَشهر الفنانين المؤَثِّرين في تاريخ الفن التشكيلي الغربي.
- إدغار دوغا (1834-1917)
اشتهر هذا الانطباعي بأَنه مزاجي عجوز متقوقع في محترفه، لا يخرج إِلَّا ليلًا يتسكع في شوارع باريس. كان يزور المعارض مع قلة قليلة من رفاقه ويهرب دومًا من أَقلام النقاد وآرائهم. وذات يوم كتب بقسْوةٍ موجِّهًا كلامه للنقاد: “هل الرسم هو فقط مادة للنظر إِليها؟ هل تفهمونني؟ أَنا لا أَرسم لكُم بل أَرسم لثلاثة أَو أَربعة رفاق وأَصدقاء، وللبعض ممن غابوا أَو هم مجهولون لا نعرفهم”. وكان دوغا على صداقة مع الرسامة الانطباعية الأَميركية ماري كاسَّاتْ (1844-1926) وكانت تعيش في باريس، وغالبًا ما ترافقه، هي وشقيقيتها ليديا، إِلى متحف اللوفر لدراسة الأَعمال الكبرى والتأَمل في تفاصيل إِبداعاتها. لم تكن صداقته حميمة مع ماري، مع أَنهما كانا بدون زواج، وعاش دوغا وحيدًا طوال حياته. سنة 1880 بدأَت تظهر لديه عوارض الانهيار العصبي والضجَر من كل شيْء. وفي رسالة سنة 1884 كتب في رسالة: “إِني محجور في ذاتي، عقيمٌ بلا أَيِّ رغبة. أَضعتُ الخيط المؤَدي إِلى المابعد”. وهو أَمضى سنواته الأَخيرة شبه كفيف، يمشي وحده في شوارع باريس ولا يراها بوضوح. ومع أَنه كان له أَسرة وأَصدقاء، كان مزاجه الساخر الـمُروَّس يُبعد عنه الجميع. وحين توفي سنة 1917 ترك مجموعة جميلة بهية من لوحات الراقصات والمغنّيات والطبيعة الفرحة، فيما هو غارق وسط عتمة داخلية مريرة.
- إدوار مونْشْ (1863-1944)
عانى هذا الفنان النروجي من القلق المضْني والأَوهام والتخيُّلات القاتمة. وإِحدى أَشهر لوحاته: “صرخةُ الذعر” (1893) وضعها عند عودته مساءً عند الغروب أَمام مضيق مخيف يطل على أُوسلو. وحول ذلك كتب: “فيما كانت الشمس تغيب، تحوَّل الجوّ إِلى فضاء أَحمر مخيف. وقفتُ جامدًا مرتجفًا من القلق والخوف وسمعتُ صرخةَ ذعر طالعةً من قلب الطبيعة”. من هنا فسَّر النقاد لاحقًا هذه اللوحة بأَنها تمثل القلق البشري من تقلُّبات العالَم الحديث، وهو واقعًا القلقُ الذي ظل ينهش مونش طيلة حياته.
سوى أَن هذا القلق كان في أُسرته كذلك، فجَدُّه كان يعاني من انهيار عصبي، وعمَّته كانت مصابة بالانفصام، وطفولته كانت تائهة بعدما والدتُه وشقيقته توفيتا بالسلّ، فيما شقيقته الأُخرى كانت تعاني من هلوسات غريبة.
في كانون الأَول/ديسمبر 1889، بعد وفاة والده تاركًا أُسرة مفكَّكة تائهة، تحمَّل مونش مسؤُوليات الأُسرة ماليًّا. وفي خريف 1908 ازدادت سوءًا حالتُه النفسية المضطربة بسبب إِدمانه الفاحش على الخمر، فراحت تتراءى له هلوسات مرعبة ولبِسَهُ شعور بالملاحقة. ولما استفحل وضعه، دخل عيادة طبيب نفسي ساعده بعد بضعة أَشهر على تحسُّن وضعه قليلًا. وعلى العكس، وعى طبيعة وضعه النفسي كي يستخدمه حافزًا لأَعماله الفنية. من هنا كتابتُه في إِحدى يومياته: “شعوري بالخوف ضروري لي كي أَرسم. لا أَفْصل خوفي عن عملي”. وحين توفي نهار 23 كانون الثاني/يناير 1944 (بعد شهر على ذكرى ميلاده الثمانين) كان سبب وفاته طبيعيًّا لا علاقة له بوضعه النفسي، فترك أَعمالًا خضعَت لمزاجه لكنها باقيةٌ أَعمالًا خالدة في ذاكرة الفن.
- مايكلانجلو (1475-1564)
كانت يده المبدعة تجمع المرض إِلى العبقرية. وإِن كانت أَعماله، رسمًا أَو نحتًا، هي من الأَروع في العالم، فهو أَنتج أَعمالًا كثيرة جدًّا وذات تفاصيل مذهلة، وضعَها جميعها وهو في حالة انهيار عصبي وقلق وجودي ضاغط، لذا كان ينعزل أَيامًا طويلةً عن العالم الخارجي ناسيًا حتى تناوُل الطعام وتغيير ملابسه.
اثنان من تماثيله الخالدة: “داود” (1504) و”المسيح في حضن أُمه مريم” (1499) وضعهُما وهو دون الثلاثين. وبُعَيْدَ تلك الحقبة رسم اثنتين من أَعظم جدارياته فوق مذبح كاتدرائية الفاتيكان: “الحساب الأَخير” (1540) و”التكوين” (1510). ومن مراسلاته يتبيَّن أَنه عاش فقيرًا، لا يأْبه لطعام أَو شراب، وغالبًا ما كان ينام من دون أَن يخلع ثيابه وحذاءه. وهو كتب في رسالة إِلى والده: “أَعيش حياة بائسة ولا رغبة لي في العيش ولا في الشهرة. أَعيش في خوف دائم بالرغم من إِغراقي في أَعمال كثيرة مطلوبة مني. لا أَذكر أَنني عشْتُ فترة من حياتي في هناءة بدون أَن يؤَرقني القلق”.
مع ذلك، مع كل ما كان يعانيه بينه وبين إِزميله أَو ريشته، فإِننا اليوم ننعم بتـماثيل له وجداريات ولوحات تعكس فينا رغبة الحياة وسط هذه الجنة من الأَعمال الفنية الخالدة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.