لبنان مات، لم يَبقَ منه سوى دولة مَشلولة ومُشَلّعة

مايكل يونغ*

عندما بلغ لبنان (الكبير) المئة عام في أيلول (سبتمبر) 2020، لم يحتفل بالمناسبة سوى عددٍ قليل جدًا من اللبنانيين. لقد أدرك الكثير منهم أنَّ بلادهم، بكل المقاصد والأغراض، قد انتهت بشكلٍ أو بآخر ككومنولث للطوائف في البلاد. وما تبقّى هو مكانٌ مُختَلٌّ حيث يبدو أنَّ أيَّ إحساسٍ مُشترك بالمجتمع الوطني قد مات.

هذا ليس مُفاجئًا، والأحداث اليومية تؤكّد ذلك. زارَ وفدٌ من صندوق النقد الدولي بيروت قبل أسبوعين، وكان الانطباع العام بعد مغادرته هو أن أعضاءَ النخبة السياسية والمالية في لبنان ليست لديهم أيّ نيّة لتنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي لمعالجة الانهيار المالي لعام 2019.

وسعيًا إلى تحقيق مصالحها الشخصية أو الطائفية، تُفضّلُ هذه النخبة عدم القيام بأيِّ شيء بدلًا من تبنّي إصلاحاتٍ قد تُنقِذُ على الأقل جُزءًا من ودائع عدد كبير من اللبنانيين، حيث يعيش ما يقدر بنحو 80 في المئة منهم تحت خط الفقر.

بمعنى آخر، فإنَّ الحدَّ الأدنى من مسؤولية القيادة السياسية والمالية، وهي العمل لصالح سكان البلاد، غائبٌ تمامًا. وبدلاً من ذلك، يساعد القادة مجتمعاتهم فحسب، ودائماً فقط بالطرق التي تُعزّزُ سلطتهم عليها، في حين لا يفعلون أيَّ شيءٍ من شأنه إحياء لبنان كأمّة أو كدولة.

مع ذلك، سيكون من السذاجة الافتراض أنَّ الإصلاحات المالية والاقتصادية هي الدواء الشافي لمشاكل لبنان. ما انهار في تشرين الأول ( أكتوبر) 2019 كان أكبر بكثير من اقتصاد البلاد. لقد انهار نظامُ حُكمٍ بكامله نشأ بعد الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الفترة 1975-1990. وكان هذا النظام بمثابة نقلٍ فعلي لنظام زمن الحرب إلى نظام زمن السلم الذي استولى فيه قادة الميليشيات السابقون على الدولة.

استولى زعماء الطوائف في زمن الحرب على الوزارات وبدأوا الاستفادة من إعادة الإعمار بعد الحرب. وكان مُتعهّد نظام ما بعد الحرب هذا هو رفيق الحريري، الذي كان يتمتع بالمصداقية والطاقة اللازمة لجذب رأس المال الأجنبي. وكان تعيينه نتيجةً للتفاهم بين المملكة العربية السعودية وسوريا، حيث يدير بموجبه الحريري الاقتصاد وإعادة الإعمار في حين تتولى سوريا إدارة الشؤون السياسية.

أدت الهيمنة السورية إلى تطورَين رئيسيين: التقويض المنهجي للمبادئ الدستورية، حيث تم انتهاك القانون الأساسي في لبنان مرارًا وتكرارًا، أو التلاعب به على النحو الذي أدى إلى خلق سوابق كانت تتعارض تمامًا مع نوايا واضعي الدستور.

وثانيًا، قررت سوريا عدم نزع سلاح “حزب الله”، وغيره من الجماعات الموالية لها، كما حدث مع أغلب الميليشيات الأخرى، وذلك بحجة أن الحزب كان منخرطَا في “المقاومة” ضد إسرائيل. وقد سمح ذلك ل”حزب الله” بناء ترسانة أسلحة، بحيث برز في العام 2005، بعد انسحاب القوات السورية، القوة المهيمنة في لبنان، حيث فرض إرادته على الجميع وساهم في زوال العقد الاجتماعي الطائفي.

وحتى لا نلوم اللبنانيين فقط على ما حدث، فإن نظام ما بعد الحرب كان مُبارَكًا من قبل المجتمع الدولي والعالم العربي، اللذين أطلقا العنان لسوريا لفرض أفضلياتها على البلاد. إن تسليم لبنان إلى المُسَلّحين السابقين والنظام السوري الذي دمّر مؤسّساته الوطنية كان جريمة جماعية.

الواقع اليوم هو أنَّ النظامَ اللبناني قد وصل إلى نهايته. إنَّ التبذيرَ الصادم الذي اتسمت به سنوات ما بعد الحرب، حيث تمَّ بناء النظام المالي حول تمويل النخبة السياسية والمالية، قد مات. لقد فقد المجتمع كل ثقته بالقطاع المصرفي الذي يواصل سرقته بشكل يومي. لقد تبين أن حاكم البنك المركزي السابق، رياض سلامة، الذي تمَّت الإشادة به لفترة طويلة باعتباره معلم النجاح المالي في لبنان، كان مُحتالًا لم يؤدِّ إلّا إلى تأخير وتفاقم خراب البلاد.

رُغمَ كل هذا، يبدو أن الطبقة الحاكمة في مرحلة ما بعد الحرب ليس لديها أيّ اقتراح لإخراج لبنان من ورطته. والآن بعد أن أصبح الساسة غير قادرين على التوحّد حول النهب الجماعي للدولة، أصبحوا أكثر انقسامًا من أيِّ وقت مضى، حيث لم يتفقوا إلّا على أنَّ إصلاحات صندوق النقد الدولي قد تؤدي إلى إضعاف موقفهم ووضعهم من خلال تغيير طريقتهم في أداء الأمور وتوليد اضطرابات شعبية.

وفي هذا السياق، يجب أن نفهم عدم قدرة الساسة اللبنانيين على الالتفاف حول شخصية مُوَحّدة يمكنهم انتخابها للرئاسة. دستوريًا، رئيس الجمهورية هو “رمز وحدة الوطن”، إلّا أنَّ الرئاسة اليوم ليست أكثر من تجسيدٍ لغيابِ الوحدة المُزمِن في لبنان. ولذلك، فإن عجز القوى السياسية في البلاد عن الاتفاق على خليفة لميشال عون، قد دقَّ ناقوس الموت للجمهورية الثانية، التي أعقبت اتفاق الطائف في العام 1989.

يجد لبنان نفسه اليوم في مأزقٍ مُدَمِّر ــ فهو عالقٌ بين نظامٍ غير ناجح ومرفوض من قِبَل غالبية السكان، ولكنه يتمتع أيضًا بقدر ملحوظ من المرونة والصمود لأن أغلب اللبنانيين ما زالوا، على نحوٍ لا يخلو من المفارقة، موالين لقياداتهم الطائفية. وفي ضوء هذا المأزق، فمن المرجح أن يستمر تفكّك البلاد، مع عدم وجود احتمال لإعادة إحياء النظام على أسسٍ أكثر صلابة وتوافقية.

وبينما يواصل النظام انحداره، بدأت ديناميكيات أخرى تلعب دورها لجعلِ أيِّ إحياءٍ للنظام أمرًا شبه مستحيل. ويستفيد “حزب الله” من الفراغ على مستوى الدولة لتوسيع هامش مناورته وتعزيز المصالح الإقليمية الإيرانية، على الأقل على الجبهة الفلسطينية. ويدخل آلاف السوريين إلى لبنان كل يوم، هربًا من الظروف الاقتصادية الصعبة في سوريا، ما يؤدي إلى مزيدٍ من التغيير في التركيبة السكانية اللبنانية.

لن تؤدّي مثل هذه التطورات إلّا إلى زيادة القلق والتوتّرات الطائفية، ما يدفع جميع الطوائف إلى تصلّب مواقفها. حتى سنوات الحرب لم تكن سيئة كما هي الأمور اليوم. لقد ذهب لبنان الذي عرفه جيلي. وما تبقّى هو دولة مشلولة لا تملك حتى الوسائل للاعتراف بزوالها.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى