الجَميع يُريدون مَمَرَّ الهند والشرق الأوسط وأوروبا، لكن ليسَ للأسبابِ نفسها
في الوقت الحالي، تُعَدُّ مبادرة ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا التي أطلقتها قمة مجموعة العشرين الأخيرة مجرد بداية لتوسيع التكامل العابر للقارات الذي يبدأ بالتعاون في مجالات التجارة والطاقة والبنية التحتية، ويمكن أن ينمو إلى الجغرافيا السياسية والأمن.
محمد سليمان*
من بين المبادرات الأكثر أهمية التي انبثقت عن قمة مجموعة العشرين التي عُقِدت في نيودلهي في وقت سابق من هذا الشهر كانت مبادرة ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا (مبادرة ممر الهند)، التي أعلنتها الولايات المتحدة، الهند، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، والاتحاد الأوروبي على هامش المؤتمر. تم تصميم هذه المبادرة لتحفيز التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج وأوروبا، ووفقًا لهذه المبادرة سوف يُقامُ ممرُّ عبورٍ مُتعدّد الوسائط يربط بين فرعين من طريق السكك الحديدية والبحر: الفرع الشرقي يربط الهند بالخليج، بينما يربط الفرع الشمالي الخليج بأوروبا.
عند اكتماله، كما يوضّح بيان البيت الأبيض، سيوفّر ممرُّ الهند شبكةَ نقلٍ يُمكن الاعتمادُ عليها وفعّالة من حيث التكلفة والتي ستكمل طرق النقل البحري والبري الحالية لتسهيل حركة البضائع والخدمات بين الدول المشاركة. بالنسبة إلى واشنطن وبروكسل، يمثل المشروع الطموح العابر للقارات جهدًا جيواقتصاديًا وجيوسياسيًا لزيادة التواصل مع الدول الساحلية في جنوب آسيا والشرق الأوسط من خلال التجارة والشبكات التجارية، مع التركيز على صياغة الشراكات الناتجة بما يتماشى مع المصالح الغربية.
مع ذلك، بالنسبة إلى الدول ذات الأهمية الاستراتيجية على طول مسار الممر -وأبرزها الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية- فإن مشاركتها في المشروع لا تعكس الرغبة في اختيار أحد الجانبين وسط عصر المنافسة بين القوى العظمى. بل إنه يعكس الأهمية التي توليها هذه البلدان للتكامل الجيواقتصادي والجيوسياسي المتبادل كوسيلة لضمان الاستقرار الإقليمي وتحقيق أهداف النمو الوطني الطموحة.
ممرُّ الهند مقابل “بريكس”
في حين أنه من المُغري تصوير مبادرة ممر الهند كمُنافِسة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، فإن هذا سيكون مُضَلِّلًا. تعتزم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكلاهما محوري في الممر، الحفاظ على استقلالهما ومقاومة الاختيار الثنائي بين واشنطن وبكين. لقد اندمجت الصين بالفعل بشكل عميق في اقتصادات البلدين، وفي المشهد التكنولوجي، وتحوّلات الطاقة الخضراء، ومشاريع البنية التحتية الطموحة. وبدلًا من ذلك، تنظر أبو ظبي والرياض إلى ممر الهند كجُزء من أجندتهما الجيواقتصادية الخاصة لتجاوز لعب الأدوار التي تُركّز على الطاقة وتصبحان مركزًا تجاريًا واقتصاديًا يربط آسيا وأوروبا.
مع ذلك، يُمثّل ممر الهند نموذجًا بديلًا من مبادرة الحزام والطريق في ما يتعلق بمسائل العمل والتمويل ووكالة الدول المشاركة في الممر. ويعتمد الفرع الشرقي من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على التكامل الاقتصادي المتنامي وتعميق العلاقات الثنائية بين الهند والدولتين الخليجيتين، اللتين أصبحتا ثالث ورابع أكبر شريكين تجاريين للهند على التوالي. ويُسلّط هذا الاتجاه الضوءَ على التقارب بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا في منطقة غرب آسيا الأوسع.
ويطرحُ الفرعُ الشمالي الذي يربط المملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل بأوروبا تحدّياتٍ أكبر. تستمر الممرات متعددة الأوضاع في مواجهة مشكلات مثل المنافسة الحالية، وضيق الوقت، وتعقيدات التأمين، والتحديات الجغرافية واللوجستية، بالإضافة إلى عمليات التحميل والتفريغ المتعددة من السفينة إلى السكك الحديدية والعكس. علاوة على ذلك، يظل هذا الطريق عرضة للبيئة الديبلوماسية المضطربة في الشرق الأوسط، بما في ذلك التوترات المستمرة بين الأردن وإسرائيل. على العكس من ذلك، يمكن أيضًا اعتبار ممر الهند بمثابة منصّةٍ أخرى لتسريع الجدول الزمني ونطاق اتفاقية التطبيع السعودية-الإسرائيلية المرتقبة والمدعومة من الولايات المتحدة.
وعلى الرُغم من نظام النقل من السفينة إلى السكك الحديدية الذي يمثّل تحديًا معترفًا به، ستتمكّن دول ممر الهند من تركيبِ كابلاتٍ للكهرباء والاتصال الرقمي، بالإضافة إلى خطوط أنابيب لصادرات الهيدروجين النظيف. ووصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين هذا الجانب من المشروع بأنه “جسرٌ أخضر ورقمي يربط القارات والحضارات”. وهو يعتمد على شبكات الكابلات البحرية “بلو و رامان” (and Raman Blue) التابعة لشركة “غوغل” (Google) والتي تربط الهند بإيطاليا وفرنسا عبر إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
تطور أوروبا الجيواقتصادي
أحد أهم مضامين مبادرة ممر الهند يكمن في ما تكشفه عن التحوّل الجيواقتصادي لأوروبا. على خلفية التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، والغزو الروسي لأوكرانيا، والتحوّل التدريجي لمراكز الثقل الجيوسياسية والاقتصادية من الغرب إلى الشرق، بدأت أوروبا تنظر إلى فنِّ الحُكمِ الاقتصادي باعتباره ساحة محورية للمنافسة الجيوسياسية التي ستُشكّل مستقبل أوروبا في العالم الناشئ المتعدّد الأقطاب. وفي هذا السياق، تُمثّلُ مبادرة ممر الهند ثمرة توصيف رئيسة المفوضية الأوروبية، فون دير لاين، لإدارتها، عند توليها منصبها في العام 2019، باعتبارها “لجنة جيوسياسية” من شأنها التركيز على الشراكات الدولية. ومع مبادرة ممر الهند، يعمل الاتحاد الأوروبي مع واشنطن لإنشاءِ إطارٍ جغرافي اقتصادي أوسع بهدفِ تشكيلِ مستقبل جنوب آسيا والشرق الأوسط، كجُزءٍ من تحالفٍ مع شركاءٍ مؤثّرين وذوي مواقع استراتيجية مثل الهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
في الوقت نفسه، فإن التقاربَ المُحتَمَل لمنطقة غرب آسيا الناشئة مع حوض البحر الأبيض المتوسط قد خلق حافزًا لفرنسا وإيطاليا للانضمام إلى مبادرة ممر الهند. على مدى العقد الماضي، أصبحت فرنسا لاعبًا مهمًّا في غرب آسيا، مع التركيز على الأمن والاقتصاد الجغرافي والجغرافيا السياسية لبناء الشراكات. وتتمتع إيطاليا تقليديًا بصورةٍ إيجابية في المنطقة، لكنها تكافح من أجل رفع مكانتها إلى مستوى لاعبٍ مؤثّر. وعلى هذا النحو، يُعَدُّ الانضمام إلى مبادرة ممر الهند عنصرًا محوريًا في استراتيجية إيطاليا الأوسع لتعزيز علاقاتها مع الخليج والهند. وإلى الشمال في برلين، سيوفّر ممر الهند دفعةً للاقتصاد الألماني المتعثّر القائم على التصدير، والذي يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على طُرُقِ التجارة الآمنة وسلاسل التوريد. بالنسبة إلى باريس وروما وبرلين، فإنَّ الانضمامَ إلى مبادرة ممر الهند هو اعترافٌ بأنَّ مصالحها في غرب آسيا وآسيا ككل يتم تقديمها بشكلٍ أفضل من خلال إطارٍ مُوَسَّعٍ يدمجُ الجغرافيا الممتدة من البحر الأبيض المتوسط عبر الخليج إلى الهند.
هدفان، مشروعٌ واحد
بغض النظر عن الجدوى والمخاوف المُتعلّقة بالجدول الزمني لمشاريع الاتصال الطموحة هذه، فإنَّ مبادرةَ ممرّ الهند والشرق الأوسط وأوروبا تُمثّلُ بدايةَ حقبةٍ جديدة في الجغرافيا السياسية العابرة للقارات. فهي تعكسُ التقاربَ بين استراتيجيتين وأهدافًا جيوسياسية متميّزة ومتكافلة: فمن ناحية، رغبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في درء نفوذ الصين وروسيا في جنوب آسيا والشرق الأوسط من خلال تشكيل البنية الجيواقتصادية للمنطقة بشكلٍ إيجابي؛ ومن ناحية أخرى، إيمان الدول الرئيسة مثل الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بالأهمية الاستراتيجية لتعميق العلاقات وتعزيز التكامل الإقليمي، مع الحفاظ على مجموعةٍ متنوِّعة من الشركاء الاقتصاديين والاستراتيجيين.
ومن المحتمل أن تؤدي المقاربات المُتباينة تجاه الممر إلى توتّرات. ومع ذلك، فإنّ جميع العواصم المختلفة المعنية لديها فَهمٌ واضح لأسباب انضمام بعضها البعض إلى المشروع، وهو الذي من المرجح أن يمنع الصراعات المستقبلية ويسمح لها بالتركيز على الهدف المشترك المتمثّل في ضمان نجاح الممر. في الوقت الحالي، تُعَدُّ مبادرة ممر الهند مجرّد بداية لتوسيع التكامل العابر للقارات الذي يبدأ بالتعاون في مجالات التجارة والطاقة والبنية التحتية ويمكن أن ينمو إلى الجغرافيا السياسية والأمن. وإذا أتى ثماره، فسوف يمثل لحظة محورية في الجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين.
- محمد سليمان هو مدير برنامج التقنيات الاستراتيجية والأمن السيبراني في معهد الشرق الأوسط وزميل زائر في برنامج الأمن القومي في مؤسسة الطريق الثالث. ويركز عمله على تقاطع التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والتجارة في الأسواق الناشئة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @Thisissoliman.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.