دَعوَةٌ إلى الإشمِئزاز

راشد فايد*

جَوَّفَ زَمَنُ التوأم الشيعي، بمساهمةٍ غير واعية من خصومه، اللغةَ السياسية من مقاصدها الفعلية، فلا الحوار هو الحوار الذي تعرفه المُجتمعات المُتقدّمة، ولا انتخاب رئيسٍ للجمهورية هو الإنتخاب الذي نصَّ عليه الدستور، ولا السيادة الوطنية هي نفسها السيادة التي تحياها أوطانُ الآخرين. فكيفَ يولدُ حوارٌ شرطه استبعاد النقاش في تسمية مُرَشَّحٍ للرئاسة غير مُرَشَّحِ المُمانعة، التي ترى ترشيحه “أمرًا طبيعيًا”، بينما ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، أو غيره، اعتداءً وافتراءً؟ وكيفَ يُنتَخَبُ رئيسٌ لا يلتئم شملُ النواب لانتخابه؟ وكيفَ تسلمُ العملية الديموقراطية إذا كان سجل الإغتيالات في 2005 و2006 لا يزالُ مُضمَّخًا بدماءِ شهداء انتفاضة 14 آذار؟ وكيفَ تقومُ دولةٌ لها شريكٌ مُضارِبٌ في سلطتها، مهمّته مَنع قيامها إلّا تحت هيمنته، وسطوته المسلحة، ويصرُّ على إيهام الناس بأنه لا يستخدمُ سلاحه إلّا في وجه العدو الإسرائيلي، بينما الإشتباكات تتفشّى بين بيئته والجيش، من الضاحية إلى حي الشوارنة، وصولًا إلى القرنة السوداء، مُتظلّلة بتفسّخِ هيبة الدولة بفضل أياديه البيض؟

“تجويفٌ” آخر، لا يمكن تجاهله، هو مغزى “السيادة الوطنية”، التي دفعت بتلفزيون “المنار”، قبل أيام، إلى الغِيرةِ عليها والتشهيرِ بدور “اللجنة الخماسية” في الدوحة، واعتبار اجتماعاتها “عقيمة” وفق تعبير أحد الناطقين بصوتها. ينسى هؤلاء “تجلّي السيادة” على طريق المطار، وفي زيارات مسؤولين إيرانيين من دون موافقة الدولة اللبنانية، واستخدام لبنان منصّة لعداوات إيران مع المنطقة العربية، التي يُفترَض في اتفاق بكين أن ينهيها، وهو ما لم يَكتَمِل بعد.

يمكن لمن يعترض على هذا “الرثاء” العودة إلى زمن ازدواجية “السلطة” مع “منظمة التحرير الفلسطينية”، ثم مع الوصاية السورية، والطرفان كانا يزعمان عند كلِّ اشتباك أنه أمرٌ بين لبنانيين، وأنهما يتدخلان لردع جهتيه، كقوة سلام، برغم علم القاصي والداني أنَّ المتخاصمين هم ربيبو المتدخّلين.

حديثُ السيادة يُذكّرُ باتفاقِ الدوحة الشهير، وقبله اتفاق القاهرة، واتفاق الطائف، ومحطّات انتخاب رئيسٍ للجمهورية، منذ عهد الشيخ بشارة الخوري إلى العماد ميشال عون. ويُفيدُ التاريخ، في هذا المجال، أنَّ مصيرَ السلطة في جبل لبنان، في ظلِّ السلطنة العثمانية، كان يتقرّرُ، منذ القرن السابع عشر، بينَ كلٍّ من والي عكا، ووالي مصر، ووالي الشام.

سؤالٌ استطرادي، أينَ هي السيادة في وجه الترسيخ المتزايد لعملية التبييض والجريمة، والزبائنية والفساد والشلل  في مرافق الدولة في لبنان فيما الحكومة عاجزة عن اتخاذ القرارات الإقتصادية الضرورية ومجلس النواب لا يُشرّع، ولا يَنتخب؟ المُضحِكُ المُبكي أنَّ مسؤولين اكتشفوا السيادة من حيث الشكل، عند إلزامهم بالمرور في آلة التفتيش بالأشعة (سكانر) للدخول إلى احتفالِ السفارة الفرنسية بعيد بلادها الوطني.

العجيبُ في هذه “التجويفات” أنها لا تستفز الرأي العام ولا تُغضِبه، وما “الليالي الملاح” في المنتجعات والمطاعم والحشود المُهَلّلة المُنطَرِبة سوى تعبير عن طلاق الناس مع ألعاب الطبقة السياسية بقيادة الثنائي المعروف، الذي يفرض المراوحة ليتيح تسليم الجميع بإشراك إيران في حلٍّ مُرتَقَب لأزمة الرئاسة، ولو سقطَ البلد من على حافة الهاوية، وهو وصلها، والثنائي لا يني في الدفع إليها، بقوة سلاحين، واحد هو قوة الحزب العسكرية، والثاني “استملاك” رئاسة مجلس النواب.

قد يكون”هروب” اللبنانيين، لا سيما المُقيمين، إلى السياحة الداخلية والفرح العابر، ردًّا على تَيئيسهم، وتَبَرُئهم مما يُعايشون من أزمات، بدل إعلان اشمئزازهم من الطبقة السياسية وإشهار احتقارهم لها. لكن عليهم أن يتنبهوا إلى مسؤولياتهم عمّا يعيشونه اليوم، فبذرته في تعاطيهم مع الإنتخابات النيابية الأخيرة، سواء كافراد ناخبين، أو أحزاب حاكت تحالفات كانت تفتقد استراتيجية لتفاهماتها.

يوم كاد اليميني المتطرف جان ماري لوبن ان يبلغ موقع الرئاسة في فرنسا تضامن اليسار مع اليمين وراء جاك شيراك، وأسقط كل تفصيل، وتكرر الأمر في الإنتخابات الرئاسية (الفرنسية)الأخيرة، حين سمحَ تحالفٌ واسع في وجه ابنته مارين لوبن بوصول إيمانويل ماكرون إلى ولاية رئاسية جديدة. فالديموقراطية لا تقبل المساومة، وتُعالِجُ ذاتها بذاتها، وليس من قِيَمِها لا انقلاب عسكري ولا قمصان سود، ولا 7 أيار. وحده رفع الصوت من أجل درء خطر اليمين المتطرف حمى الديموقراطية. وهذا اليمين خضع لها، لعلمه أنه لا يستطيع إلّا ذلك. فهل يستحيل ذلك عندنا؟

نحن، ربما، نستحق هؤلاء الساسة، وإلّا ما الذي يجعل الصمت يأكل أصواتنا أمام الدرك الذي يدفعوننا إليه؟ وما الذي يُبلّدُ أحاسيسنا أمام الوأد الذي نعيشه؟ وما الذي يجعلنا مستسلمين لتخلف وعيهم بالديموقراطية، وزعمهم وجوها لها، ينحلونها بالتخويف على مصير القضية حينًا، والتلويح في وجهنا، أكثر الأحيان بسلاحٍ قيل أنه من أجل هذه القضية؟

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى