للحَقِّ وُجوهٌ كثيرة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

الحقُّ الذي أراهُ أنا ليسَ هو الحقيقةَ ولا هو الحقّ الذي تراهُ أنت… فأنا وأنت والجميع محكومون بذكرياتٍ ورُؤى، ومرهونون بأحكامٍ مُسبقة ودساتير ليست من صناعتنا، كما إنَّ الظروفَ التي تُشكِّلُ رؤيتنا للواقعِ تختلفُ كثيرًا وتتغيّرُ معها معالمُ الحقيقة التي يظنُّ كلٌّ منّا أنه يمتلكها وحده. هل هذا بالتحديد ما أرادَ أن يقوله الكاتب والمؤلف المسرحي الروسي أنطون تشيخوف في قصّةٍ قصيرةٍ للغاية بعنوان “القناع”؟

في القصة، انسحبَ جماعةٌ من المُثقّفين من صالةِ رَقصٍ في إحدى الحفلات الخيرية التنكّرية، ولاذوا بالقراءة والتأمل في غرفة المطالعة، لتتناثر على الطاولة الصغيرة بعض الكتب والجرائد والمجلات. كانت الغرفةُ صامتةً صمت القبور حين ركلها بقدمه رجلٌ يرتدي حلّة حوذي وقبعة من ريش الطاووس وقناعًا. وتبع الرجل سيدتان وخادم يحمل بين يديه صينية عليها ما لذّ من الشراب وبضعة أكواب. أزاحَ الرجلُ الصحف والمجلّدات بيديه، وطلب من الخادم أن يضعَ الصَينية فوق الطاولة وينصرف، ثم أمر جماعة المثقفين بالخروج لأنَّ الوقتَ غير مناسب للقراءة، وبيديه أجلس السيدتين عن يمين وشمال. ولمّا اعترضَ أحد المُثقَّفين بحجّةِ أنَّ المكانَ ليس مُهَيَّئًا للشرب، سخر المُقنَّعُ قائلًا: “هل تتأرجح الطاولة أو يتساقط السقف كسفًا؟”.

لا أعرف هل كان الرجل الطاووس مُحِقًّا حين اتَّهَمَ المثقّفين بأنهم لم يلجؤوا إلى القراءة إلّا لأنهم لا يمتلكون ثمن الشراب، إذ لم يَرُدّ منهم أحد تلك التهمة. لكنني أتفق معهم أن الرجل كان يفتقر إلى الذوق والكياسة حين انتزع الجريدة من بين يديّ أحدهم ليشطرها نصفين ويلقيها جانبًا. لم يعتذر الرجل حتى رُغمَ علمه بأن صاحبَ الجريدة يعمل مديرًا في أحد البنوك. ولم يترك الرجل أمام المثقّفين حلًّا سوى اللجوء إلى السلطة لإيقاف عربدته ولو بالقوة.

بعد دقيقة، دخل شاويش أحمر الشعر يحمل شريطًا أزرق فوق سترته، وتلاه آخر أكثر طولًا وأشد عجزًا، لكن الرجلين لم يُحرّكا  في حاجبَي صاحب القناع شعرة. وبالتالي، تم استدعاء رجال الشرطة الموجودين في المكان، إلّا أنَّ صاحبنا لم يُغيِّر شيئًا من عناده وصلفه. أحضر الشرطي دفترًا، وسجّلَ محضرًا، ووقَّعَ الشهود، وبقي اسم المُتَّهم شاغرًا. عندها، وقفَ المُقنّعُ ليكشف عن هويته، وليتناول المثقّفون حك أقفيتهم وفتل شواربهم في صمت خجول. لم يكن المارق سوى أحد رجال الأعمال المشهورين بأعمالهم الخيرية وفضائحهم.

خرج المثقفون على أطراف أصابعهم بدون أن ينبسوا بكلمةٍ واحدة، وكأنَّ على رؤوسهم قناني خمر مُعتَّقة. وبعد ساعتين من الانتظار، خرج الرجل الطاووس وهو يترنّحُ يُمنةً ويُسرةً وقد احمرَّ وجهه وتحركت رابطة عنقه وسقطت بعض الأرياش من قبّعته ليشاهد الأوركسترا وهو ينعس قبل أن يعلو شخيره. لكن المثقفين الذين تحلّقوا حول طاولته كالذباب لم يغادروا أماكنهم حتى قرّرَ أن يغادر. وعندما تعطّفَ الملياردير الخيِّر وسمحَ لهم أن يوصلوه إلى باب قصره، كانت السعادة تملأ أعطافهم وتطيح برؤوسهم كما فعل الخمر بصاحبهم تمامًا.

لا وقت للمطالعة إذًا إن كانت لا تُسمن ولا تغني من معرفة، ولا حجة للمثقفين إن أهدروا سنوات عمرهم وأبصارهم ودراهمهم في قراءة ما لا يلزم عن الحرام والحلال والحق والباطل إن كانت رؤوسهم كلها لا تساوي ليلة سكر واحدة في بلاط أهل الحل والعقد. وليوفّر أهل الدساتير مرافعاتهم التي لا تُحِقُّ حقًّا أو تُبطِلُ باطلًا. ما فائدة كل الكتب التي قرأناها والأشعار التي حفظناها، والعلوم التي درسناها إن كان مآلها أن تكون بساطًا لموائد أهل الطاس والكأس والقيان؟ ولماذا ننفق أعمارنا على بضاعةٍ كاسدةٍ لا تُفيدُ وطنًا ولا مواطنًا؟ هل أراد تشيخوف أن يسخرَ من مُنتدياتنا وجرائدنا ووسائل إعلامنا، أم أنه كان يسخرُ من روسيا وسوريا وليبيا وساكني واق الواق؟ للحقيقة وجوه أخرى أيها السادة غير التي تعلّمناها وقضينا العمر في الدفاع المستميت عنها. لكنها وجوهٌ غير مُقنّعة وإن كانت مُقنِعةً جدًّا.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى