… و”غودو” أَيضًا صار كلبًا

الكلب غودو شريك التأْليف والتمثيل والإِخراج (كاميرا قمر السخن)

هنري زغيب*

أَعرف أَنَّ هذا العنوان يأْخذ تلقائيًّا إِلى عنوان ريمون جبارة لــمسرحيته “زرادشت صار كلبًا” (1977). لكنَّ “غودو” هنا لا يأْخذ، إِلَّا بالاسم، إِلى مسرحية صموئيل بيكيت “في انتظار غودو” (1953)، لأَن أَدهم الدمشقي اختار لكلبه اسم “غودو” وأَصرَّ أَن يجعل الكلب شريكًا له في التأْليف، فإِذا عملُه الجديد على مسرح مونو: “حديقة غودو” من “كتابة وإِخراج غودو وأَدهم الدمشقي”.

العبَثية إِذًا تبدأُ من هنا، من العنوان و”المشاركة” في التأْليف. وتروح تتمحوَر على انفجار مرفأ بيروت (4 آب/أغسطس 2020) وما تداعى عنه من تداعيات جعلت الأَدهم يأْنف من أَي مكان في المدينة المحترقة المنكوبة، ولا يجد هناءته إِلَّا في حديقة غودو الكلب الذي كان يمشي به في شارع هادئ حتى إِذا وقع الانفجار أَفلت منه فظَنَّه ضاع، لكنه إِذ عاد إِلى بيته وجَدَ كلبه سبقه إِلى باحة البيت.

ومنذ تلك اللحظة الأَبوكاليبتية، تروح الذكريات تنهال على الأَدهم، في سياق نصِّيٍّ محبوك بنسْج دقيق كما خيوط النَول، تتجاور فيه الحوارات والمونولوغات ببراعةٍ سلِسة بين المحكية والفصحى. وتأْتي فيها لافتةً عباراتٌ هي في قلب الشعر الفطري: عند وقوع الانفجار”قتلْتُ صيَاحي لأَحيا”، وبعد وقوع الانفجار “ودِدْتُ لو أَضع رأْسي حجرًا ثقيلًا بين كَفَّيَّ وأَبكي”، ومن ذيول الانفجار “أَعلم أَنني أَزرع وردةً في صحراء، وأُضيف إِلى البحر قطعةَ سُكَّر، وأَحضن وطني بذراعَين مبتورَتَين”.

إِلى هذا الحد تَزعزَعَ كيانُ الأَدهم، على صورة ما زعزَع الانفجار ناس بيروت وبيوت بيروت وشهداء بيروت وجرحاها ومشوهيها ومعطوبيها. ويكون أَنه، مع كلبه غودو، لا يعود سويًّا حتى في استذكاراتٍ من طفولته وشبابه حتى بلوغه الثلاثين، وهو منصدعٌ في حالة هي بين التروما والضياع واليأْس والضنى من مدينة تشظَّت في كيانه حتى لم تبقَ زاوية آمنة منها سوى حديقة الكلب غودو.

ومن الأَدهم إِلى “ضنى” عشيقته الخارجة من حياته: “مبارح قالتْلي رفيقتي إِني لازم كون واقعية… معها حق… بكرا بس صير واقعيه رح إِنتحر”. ويبلغ اليأْسُ رفيقه الياس: “ليتني أَستطيع خلْع رأْسي كما أَخلع حذائي قبل أَن أَنام”، فيجيبُه أدهم مطَمْئِنًا بهباء الفكرة “النوم بديلٌ من الانتحار… النوم موتٌ مستعار”…

بلى… إِلى هذا الحد صَدَع انفجار بيروت كلَّ خاطرة طيبة من أَهل بيروت في كلِّ بيروت، فيجعل المسرحيةَ بكاملها في حالة محيِّرة بين الهذيان والصراخ الحاد حتى مد الأَلسُن بعيدًا خارج الفم، وحتى أَن الأَدهم، وهو يُـمَـشِّي كلبه في شوارع بيروت، يصرخ أَوجعَ ما في وجدانه من أَفكار جنائزية: “أَنا وعَمْبْمَشِّي غودو سأَلت حالي: معقول كون عمعيش هالحياة المجانية ت أُوصل للانتحار بسلام من دونما حسّ بالذنب إِني عمْبخسَر شي مهمّ بحياتي”.

يوجع ما يحسُّه الأَدهم، وليس بعيدًا أَو خارجًا عما يشعر به مَن فقدوا ولَدًا في انفجار بيروت، أَو بيتًا في انفجار بيروت، أَو حياةً كانت سعيدةً هانئةً  قبل انفجار بيروت.

معقول؟ نعم معقول.

وهذا ما يَصدم، أَو يمسح الصدمة، في أَحداث المسرحية بديكور بسيط (طاولة وصحن الكلب وتحرُّكات في غرفة شبه مظلمة طوال الوقت (هندسة الإِضاءة: موريال أَبو الروس) كما لتعطي الـمُشاهد شعورًا بشبه الاختناق في حيِّزٍ أَضيق من نفور النَفَس الأَخير قبل خروجه من لحظة التنفُّس الأَخيرة.

مشغولٌ بدقَّة المرارة نصُّ أَدهم الدمشقي، ومشغولٌ بالدقة ذاتها تمثيلُه الـمُرّ وحوله كوكبة أَدَّت له ومنه وإِليه المرارةَ ذاتها: ضنى مخايل، دانيال شويري (وهو أَيضًا مصمِّم السينوغرافيا)، مارك إرنست، غنى عبُّود، سانديبال بطرس، جاد حجار، الياس أَيوب.

مسرحية سوداء؟ ممكن تصويرُها هكذا. وقد لا تكون “شعبية” في منطق شباك التذاكر، لكن إِنتاجها (تولَّتْه د.خلود الدمشقي) جديرٌ بأن يكون مغامرة نبيلة تؤَدي إِلى جمهورها فِلذة من شظايا كارثة تاريخية هيروشيمية دمَّرت مدينة وتركت على وجهها نثارًا من يأْس وغضب وعتب لا يمكن تصنيفه إِلَّا بسوريالية عبثية أَصابتها مسرحية “حديقة غودو” في صميم شرايينها حتى بات بين المرارة والكآبة قولُ أَدهم في أَحد الـمَشاهد المأْساوية: “مثلُكِ أَنا يا بيروت، موتي مُؤَجَّلٌ وحياتي مُؤَجَّلة… أَرى سكان المدينة يحدِّقون إِليّ بلا ذاكرة، فأَهبط عن جسدي كما هرٌّ شريد؟…المرفأُ مُدَمَّى كأَسنان القرش، البحر يَطوف من حولي،  ويحضَر عليَّ الغياب… كلُّ ما فيكِ يا بيروت يُذكِّرني بأَنني لا أَحيا ولا أَموت”.

أَدهم الدمشقي: صراخك الحقيقيُّ ضالع فينا، كما في مدينة شهدَت جنازتَها، لكنها قادرة أَن تستعيد رمقها الأَخير كي تجعلَ منه لهاثًا جديدًا لحياتها الجديدة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى