حُضُور لبنان في الأَكاديـمْيَا الفرنسية

هنري زغيب*

“الأَربعون الخالدون”.. هذا هو لَقَبُهم، وبه يَنعَمُون طَوَال العُمر.. ففي هذه المؤَسسة الفرنسية الكبرى (أَطلقَها الكاردينال ريشليو سنة 1635 “لتنصيع الآداب وإِشعاعها”) يأْتي الحُكْمُ كأَنْ في قالبٍ لا يُجارى ولا يَؤُول إِلى نقاش.

بين “الأَربعين” مَن زار لبنان وكتَبَ عنه، ومنهم مَن لم يَزُر لبنان وكتَبَ عنه.. وفي الحالَين لم يَكتب أَحدٌ عن هوًى بل عن حقيقة علْمية أَو حضارية أَو تاريخية لا تُجارى ولا تَؤُول إِلى نقاش.

الذي كتَبُوا عنهُ هو لبنانُ الوطن الحضاري الخالد بإِرثه وتاريخه، أَيْ لبنان الدائم الثابت الساطع في الزمان الماضي والحاضر، ولا مكانَ فيه مطْلقًا للُبنان الدولة المتغيرِّة ولا للسُلْطة الزائلة.. هنا عظمةُ لبنان التراث والتاريخ حيال هُزال دولته وفسَاد سُلطته.

الدكتور هيام جورج ملَّاط، بدأْبه البحثيّ الجَلود، كان أَصدر سنة 2001 كتابه بالفرنسية “لبنان والأَكاديـمْيَا الفرنسية” (342 صفحة – منشورات “دار النهار”) أَثبَتَ فيه مقاطع من 47 عضوًا في الأَكاديـمْيَا الفرنسية كتبُوا عن لبنان بإِجلال وحقائق.

يضيقُ المجال في هذه الـ”أَزرار” لسرد تلك الكتابات المرجعية، سوى أَن نُبَذًا منها تُعطي القلبَ روحًا، والروحَ وَسَاعةً، والوَسَاعةَ امتلاءَ حُبُورٍ بهذا الوطن الخالد الذي لا تتجاوز مساحتُه حفنة آلافِ كيلومترات مربَّعة على الأَرض، لكنه كالمنارة التي لا تتجاوز مساحتُها حفنة أَمتار مربَّعة على الأَرض، لكنَّ رأْسها حين يَشعُّ بالنور يَبلغ مسافاتٍ شاسعة.. هكذا رأْسُ لبنان حين يشعُّ بالتاريخ والحضارة والقِيَم يبلُغ أَقصى البر والبحر.

هوذا غابريال هانوتو يُعلن:  جبالُ لبنان ليست الأَعلى في الجغرافيا، لكنها إِحدى أَعلى القمم في التاريخ الكوني”.. وهوذا جورج دوهاميل يؤْمن بأَنَّ “الأُمَّة اللبنانية ضئيلة بديموغرافياها لكنها بثقافتها الحضارية في الصف الأَول بين أُمم الشرق”.. وهوذا فرنسْوَى مورياك: “أَرزُ لبنان يمتدُّ أَوسعَ من حدوده الحالية الضيِّقة.. فهَيْبَتُه تَعلو إِلى سماء تاريخنا الجليّ وما قبل التاريخ، وتنغرز جذورُه في أَرض الإِنسان الأَول والحب الأَول منذ فجر الزمان”.. وهوذا إِرنست رينان: “مع النقوش والمحفورات التي وجدْتُها، عرفتُ عُمْق ما في جبيل ولبنان من دور جوهري في القرون الأُولى من التاريخ”.

هذه الباقة من “الأَنوار اللبنانية” في مسار التاريخ، كان الباحث عاطف قيصر مرعي حملَ بعضَها إِلينا في كتابه السابق “لبنان الأَنبياء والشعراء” (2020) وفي كتابه الذي يَصدُر قريبًا: “لبنان الأُدباء والمؤَرخين”، وفيهما شموسٌ من تاريخ لبنان الحضاري.

هذه الأَعلاه وسواها ليست للكلام الطوباوي عن لبنان، ولا لشوڤينية رخيصة يدَّعيها مَن لا علْم له ولا اطِّلاع.. فالأُمم الخالدة تستند إِلى تاريخها كي تَقوى بحاضرها زهْوًا وزخمًا فتُحافظ عليه ولا تتخلَّى عنه عند أَول هزَّة من سُلطة فاشلة تُشوِّه صورةَ الدولة وتُفسِد صورةَ الوطن في العالم. لذا أُكرِّر التأْكيد أَنَّ أَجيالَنا الجديدة لن تُحبَّ لبنان، ولن تتمسكَّ به وطنًا غيرَ عاديٍّ، طالما ليس أَمامها إِلَّا زمرة سياسيين هدَّموا هيكل الدولة القائمة وفشِلوا في إِقامة سُلطة بنَّاءة صالحة.. من هنا ضرورةُ إِطْلاع أَبنائنا من الجيل اللبناني الجديد على حقيقة لبنان الوطن، لا ليتغنَّوا به في أَحلامهم وأَحاديثهم بل ليشتَدَّ فيهم الغضبُ على سياسيين حُكَّامٍ لا يستحقُّون حُكْمَ لبنان، فيعملُ الجيل الجديد الغاضب على إِسقاطهم تباعًا واحدًا واحدًا.

بهذا الإِسقاط التدريجي تَبدأُ – ولو ببُطْءٍ وصبر – خطواتُ الرحلة الـمُشْرقة الـمُثْمرة الـمُبارَكة نحو استرداد لبنان وطنًا طالعًا من سُطُوع تاريخه في تاريخ العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى