“حزب الله” إلى أين؟

يجد “حزب الله” نفسه اليوم بالقرب من حافة أخرى، ألا وهي البقاء على صلة بالدولة اللبنانية الناشئة.

جهاد أزعور: لماذا أزعج ترشيحه النائب محمد رعد و”حزب الله”؟

مايكل يونغ*

بَعَثَ استعراضُ القوّة العسكري ل”حزب الله” في 21 أيار (مايو) في بلدة عرمتى الجنوبية رسائل عدة، ليس أقلها إلى إسرائيل. في ظل المصالحات الإقليمية –بين المملكة العربية السعودية وإيران أوّلًا، يليها تقارب الرياض مع سوريا– يبدو أن الحزبَ أعاد توجيه تركيزه على عدوه في الجنوب. كان هناك بالفعل مؤشّرٌ إلى ذلك في أوائل نيسان (إبريل)، عندما أطلقت مجموعةٌ مجهولة الهوية (بموافقة “حزب الله” بلا شك) 34 صاروخًا على شمال إسرائيل من لبنان، ما أدّى إلى تكهّناتٍ بأنَّ الحزبَ كان يسعى إلى توحيد جبهات لبنان وغزة وسوريا.

بصَرفِ النظر عن أسلحته، هل يمتلك “حزب الله” حقًا ما يكفي للدخول في حربٍ طويلة مع إسرائيل اليوم؟ سيكون الدمار الناجم عن ذلك مُروّعًا لدرجة أنه قد يؤدي إلى ردِّ فعلٍ عنيف مزعزع للاستقرار داخل لبنان من قبل السكان الذين لم يتبقَّ لهم سوى القليل ليخسروه. في ضوء ذلك، يحقُّ لنا طرحَ سؤالٍ طويل المدى حول “حزب الله”: ما هو هدفه النهائي؟ مثلما أظهر قراره بالمشاركة في الانتخابات النيابية في العام 1992 أنه سعى إلى تحويل نفسه إلى عنصر من مكوّنات الدولة اللبنانية، يجد نفسه اليوم بالقرب من حافة أخرى. من جهة فاعلة رئيسة – الفاعل الرئيس – في لبنان، يتعيّن على الحزب الآن أن يُقرّرَ ما يريد أن يفعله مع الدولة، وفي الدولة، حتى يظل ذا صلة بالموضوع.

الجواب لا يزال بعيد المنال. جميع الخيارات المُحتَمَلة التي قد يُفكّر فيها “حزب الله” تشكّلُ مخاطر عليه. إذا كان هدفه الوحيد هو الاستمرار في العمل كوكيلٍ لإيران، فإن أولويته ستكون الاحتفاظ بأسلحته وفرض مأزق في لبنان يضمن عدم تهديد سلطته. ومع ذلك، ستكون لهذا الأمر تداعيات سلبية. سيؤدي ذلك إلى زيادة الاستياء محليًا الذي سيكون مُعَزَّزًا بدوافع طائفية، حيث سيحاول “حزب الله” الحفاظ على تفوّقه في الوقت الذي يدعم نظامًا “مكسورًا” إلى حدٍّ كبير يُقاوِمُ الإصلاح. لا يمكن للحزب أن يُبقي بقية البلاد تحت سيطرته إلى أجلٍ غير مُسَمّى.

خذ على سبيل المثال تأييد “حزب الله” الرسمي لسليمان فرنجية كمُرشّحٍ لرئاسة الجمهورية. انتقلَ الحزب إلى منطقةٍ مجهولة في محاولةٍ لفَرضِ رئيسٍ مسيحي ماروني على طائفة مارونية، تُعارض جميع أحزابها السياسية الرئيسة فرنجية بشدّة. تشير التقارير في الساعات الأربع والعشرين الماضية إلى أنَّ الأحزاب الرئيسة الثلاثة، “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” وحزب “الكتائب”، أيدت منافسًا لفرنجية، وهو وزير المال السابق جهاد أزعور، الذي يشغل حاليًا منصب مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي.

سنرى ما سيأتي من هذه الخطوة، لكن أكثر ما كشفت عنه هو الرد على هذا الترشيح المُحتَمَل من قبل النائب محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية ل”حزب الله”. أعلن رعد في 28 أيار (مايو)، بغضبٍ واضح، أن أزعور هو مرشح ” البعض في لبنان الذين يملكون الوقاحة اللازمة للتصريح علنًا برفضهم وصول مرشّحٍ للمانعة”، لصالح مرشّح “الخضوع والإذعان والاستسلام”. كانت رسالة رعد واضحة: “حزب الله” مستعدٌّ للدخول في حوارٍ حول الرئاسة بشرط أن يدافع الرئيس العتيد عن أولوياته. جهود الحزب لفرضِ مُرَشَّحيه في مناصب غير محددة للمجتمع الشيعي تُثيرُ استياءً كبيرًا في الأوساط غير الشيعية، ولا بدَّ أن ينمو هذا المزاج في المستقبل.

الخيار الثاني أمام “حزب الله” هو إعادة ابتكار نفسه ليظل مُهَيمنًا في نظام اجتماعي وسياسي لبناني متطوِّر. وهذا يعني أن الحزب يجب أن يبدأ المساومة بجدية مع محاوريه الطائفيين والسياسيين، ولكن أقل لتغيير النظام السياسي الذي يهيمن عليه “حزب الله” وأكثر للحفاظ عليه. وسيتضمن اتخاذ خطوات حقيقية نحو معالجة القضايا الحيوية للحزب، مثل أسلحته وانخراطه في صراعات إقليمية، ولكن بطريقةٍ تجعل التسويات التي تُظهِرُ ترسيخ أهداف “حزب الله” في النظام اللبناني.

من المستبعد جدًا أن يختار “حزب الله” مثل هذا المسار. كان هذا هو المنطق تقريبًا وراء سياسة ميخائيل غورباتشوف في البيريسترويكا في الثمانينيات الفائتة، وبالنسبة إلى الشخصية الإيرانية العليا، المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، كانت النتيجة إنهيار الاتحاد السوفياتي. يجب أن يُدركَ “حزب الله” أيضًا أنه بمجرد أن يبدأ عملية التنازل الانتقائي بشأن قضايا مُعيَّنة، فقد يفقد السيطرة على الديناميكيات ويُجبَرُ على التخلّي عن أشياءٍ أكثر بكثير مما كان ينوي. إذا كان هناك أي شيء، فإن سلوكَ الحزب قد سار في الاتجاه المعاكس – محاولًا توسيع المساحات التي يمكن أن يفرض فيها مخاوفه الاستراتيجية على لبنان، بغض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة إلى السياسات الطائفية الداخلية.

الخيار الثالث ل”حزب الله” أكثر خطورة. إنه واحدٌ يمضي فيه “حزب الله” إلى الآخر في محاولة لإعادة تشكيل واستقرار اتصال اجتماعي لبناني جديد حول مصالحه، بهدف ترسيخ سلطته إلى أجلٍ غير مسمّى في الدولة. هنا، نتحدث عن إعادة هيكلة النظام الدستوري والطائفي، والاستيلاء على المؤسسات من خلال ميثاق وطني جديد يمنح المجتمع الشيعي مزيدًا من السلطة. سيسمح ذلك ل”حزب الله” إقامة حواجز حماية دائمة للدفاع عن أسبقيته في البلاد.

ومع ذلك، يمكن لمثل هذا المخطط أن يُقسِّمَ لبنان إلى أجزاء، لأن أكبر الخاسرين من الاتفاق الوطني المُعدّل هم المجتمع المسيحي الأوسع. في الوقت الذي يتحدث فيه المسيحيون علنًا عن الفيدرالية، أو حتى التقسيم، فإن عقدًا اجتماعيًا جديدًا مبنيًا بشكلٍ أساسي حول الطائفتين الشيعية والسنية -وهما الأكبر في البلاد- من شأنه أن يُنَفِّرَ بالتأكيد العديد من المسيحيين. ستكون عواقب ذلك تعبئة مسيحية أكبر ضد التغيير، تليها هجرة جماعية أكبر من البلاد، مما يجبر “حزب الله” والشيعة على مواجهة المجتمع السنّي بشكلٍ أساسي الذي لا ينوي تحويل لبنان رسميًا إلى وكيل لإيران.

إن محاولة “حزب الله” إصلاح الميثاق الوطني اللبناني لصالحه سيتطلب تنازلات كبيرة للطوائف الأخرى، بما في ذلك منح المسيحيين لامركزية إدارية ومالية واسعة. سيتطلب ذلك أيضًا استراتيجية جديدة تجاه السنّة، الذين من المحتمل جدًا أن يُشكّلوا الآن أغلبية في البلاد والذين سيرغبون أيضًا في رؤية قوتهم معزّزة في المؤسسات الوطنية. مثل هذه العملية ستكون معقّدة وغادرة ل”حزب الله”، ويبدو من المستحيل تخيل أن السنّة لن يطلبوا نزع سلاح “حزب الله” كشرطٍ مُسبَقٍ للموافقة على أيِّ دورٍ شيعي أكبر في الدولة. لا يمكن أن ينشأ أيُّ اتفاقٍ جديد من موقف يرى فيه الآخرون أن أحد المجتمعات يتمتع بسلطاتٍ مهيمنة على المستوى الوطني.

هذا ما لا يدركه “حزب الله” تمامًا. ستكون السياسة الطائفية على الدوام أقوى في لبنان من أي التزام إيديولوجي ب”المقاومة” أو مبادئ أخرى من هذا القبيل. من خلال إظهار الثقة المفرطة في محاولة تأكيد تفضيلاته، يُثيرُ “حزب الله” مخاوف وجودية بين الأقليات اللبنانية الأخرى. إذا لم يكن هناك هيكلٌ مؤسَّسي فاعل لتوجيه ومعالجة هذه الأمور، فقد تكون النتيجة هي العنف. بالنسبة إلى “حزب الله”، هذا هو الخيار الأسوأ، لأنه قد يعيق الحزب في حرب أهلية مفتوحة، والتي سيسعى العديد من أعدائه الإقليميين والدوليين إلى استغلالها.

“حزب الله” يبدو غير مكترث بمثل هذه الأمور، لذلك يشعر بالثقة بالنفس بسبب أسلحته. لكن الحرب ليست خيارًا، فالحزب لم يستطع بناء أي شيء يدوم على الأنقاض. يبقى النظام الطائفي، رغم عيوبه، أقوى حاجز ضد “حزب الله”، ولهذا يحاول باستمرار إبقاء خصومه الطائفيين في حالة غير متوازنة وانقسام. وهذا يفسر سبب إنزعاج محمد رعد لاحتمال الوحدة المسيحية ضد فرنجية. قد يجد “حزب الله” نفسه قريبًا مغلوبًا على أمره ومُتَفَوَّقًا عليه بسبب الحقائق الطائفية، والحزب لا يحب ذلك.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى