قَضاءُ فرنسا يَطرُقُ بابَ الـ”حاكم” في لبنان

محمّد قوّاص*

يَطيبُ للبنانيين أن يقرنوا قضاياهم بالتحوّلاتِ الاستراتيجية الدولية الكبرى وبمآلاتِ صراعِ الأمم. ولطالما أفرطوا في وصف بلدهم بـ “الساحة اللبنانية” بما يُبرّرُ خطوطَ المُرورِ والاختراقِ التي تَعَرّضَ ويتعرّضُ لها واعتبارها أصلًا لا فرعًا في كينونةِ البلد وحكاية وجوده. وكم تمنّى اللبنانيون أن يتوقّفَ الآخرون عن استخدامِ بلدهم صندوق بريد لتبادل الرسائل وكثيرها مُفَخَّخٌ وخبيث.

في هذا السياق يتمّ وَضعُ حَدَث مُذكّرة التوقيف التي أصدرتها قاضية فرنسية بحقِّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. في بعض التحليلات ما يُدرَجُ الأمر في خانة التنافس الأميركي-الفرنسي على النفوذ في لبنان ويَعتبرُ أن باريس نالت في سلوك قضائها من موقع حاكمية المصرف المركزي الذي لطالما كان لواشنطن الرأي المُرَجّح في هوية مَن يشغله وتنظيم العلاقة بينه وبين وزارة الخزانة في واشنطن.

لا يُمكنُ تجاهل ما يمكن أن تملكه “الدولة العميقة” في أيِّ بلد، حتى لدى الديموقراطيات الكبرى، من نفوذ على سلطاتها القضائية. ومع ذلك فإن القضاء الفرنسي، الذي أسقط رؤوسًا في فرنسا نفسها، ليس آخرها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الذي حكمَ عليه قبل أيام بالسجن لثلاث سنوات بتُهَمِ فساد، لن يكونَ طَيِّعًا بأيدي السلطة السياسية الفرنسية في ملفٍّ تتقاطع داخله أنظمةٌ قضائية أوروبية أُخرى.

قد يكونُ لافتًا أنَّ القاضية، أود بوريزي، استعجلت إصدار مذكرة توقيف بحقّ شخصية أساسية في تاريخ لبنان الحديث ويملك مَفاتيحَ حلٍّ وربطٍ، وفي خزائنه أسرارٌ وملفات بشأن طبيعة الخرائط المُعقّدة التي أدارت اقتصاد البلد وهياكله المالية والمصرفية منذ عقود. يتحدث سلامة عن مُهَلٍ لم تُحتَرَم، ويرفع بشعبوية بالية مسألة الدفاع عن كرامة البلد وسيادة قضائه، ويُنادي بضرورة ردّ التدخّل القضائي الأجنبي إذا لم يَحترم الأصول القانونية المعمول بها وفق الاتفاقات بين فرنسا ولبنان.

قد يبدو أيضًا أنَّ سلامة من خلال عدم مثوله أمام القاضية الفرنسية في باريس قدّمَ هديةً كان ينتظرها قضاة الخارج للتعامل مع الملفات اللبنانية المشبوهة على نحوٍ مباشر ومُباغت يهزّ أركان منظومةِ تحالفٍ سياسية أوليغارشية تتلطّى خلفَ تحصيناتٍ مُشتَرَكة. ردَّ ذلك التحالف، حتى الآن، كافةَ الضغوطِ التي مارستها الدول المانحة وصندق النقد والبنك الدوليَين من أجل انخراطِ لبنان ومؤسساته في ورشة إصلاح باتت شرطًا لإعادةِ دفع المُجتمعيْن العربي والدولي لضخّ خطوط تمويلية داخل أوردة اقتصاد تشكو القلّة والجفاف.

تأتي خطوة القضاء الفرنسي، ولا نقول خطوة فرنسا، ضد سلامة على بُعدِ شهرَين من انتهاء ولايته حاكمًا لمصرف لبنان. سبقَ أن أعلن الرجل عدم رغبته بشغل الموقع لولاية سادسة جديدة، وسبقَ لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن أعلن رفض حكومته التجديد له في هذا الموقع.

وقد لا يبتعد الحدث القضائي عن المعركة الحقيقية المُتَعلّقة باختيارِ خلفٍ على رأس الحاكمية. ولئن تندرج المعركة داخلَ صراعٍ داخلي بين القوى السياسية لا سيما المسيحية منها طالما أنَّ الموقعَ مسيحي. غير أنَّ للمعركة أجندات خارجية غير بعيدة من الحسابات الأميركية، لا سيما في امتدادات الموقع المصرفي الأول داخل مداولات إعادة تشكيل السلطة في لبنان.

كان سَبَقَ للبطريرك بشارة الراعي أن أشارَ إلى حالاتِ الشغورِ للمواقع المسيحية داخل الدولة اللبنانية خصوصًا بَعدَ خلوِّ موقع رئاسة الجمهورية من شاغله المسيحي. كان يغمزُ أيضًا من قناة موقع حاكم مصرف لبنان ومواقع أخرى. ولئن ما زالت تسويات انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهورية لم تَنضُج بعد، فإن مُذَكّرةَ التوقيف الفرنسية بحقّ سلامة وتعميم الأنتربول أمر المذكرة دوليًّا قد يعنيان أيضًا أن الغطاء الدولي قد رُفِعَ عن الرجل، وأن البحث عن بديلٍ بات أشد إلحاحًا من البحثِ عن رئيسٍ للبنان.

رفعت الحكومة اللبنانية أيضًا هذا الغطاء. سبقَ لرئيسها أن أعلن قبل أسابيع عدم التجديد له، فيما وزير الداخلية اللبناني بسّام مولوي الذي أعلن تلقّي لبنان مذكرة اعتقال سلامة من قبل الأنتربول دعا، يوم الجمعة الفائت، الحاكم المُتّهم والمُلاحَق إلى الاستقالة. وفي تلك الظواهر بداية تبرُّؤٍ من “آثامٍ” ارتكبها حاكم مصرف لبنان على الرُغمِ من أنه لم يكن يتصرّف عن هوى، بل بالتضامن الكامل مع بارونات السلطة في العقود الأخيرة.

يقول سلامة إن هناك استهدافًا لشخصه لأنه ليس على رأسِ حزبٍ سياسي ولا يمتلكُ الأتباع والأنصار والأزلام الذين يمتلكهم الساسة. لا يبتعدُ القطبُ السياسي وليد جنبلاط عن فكرة رفض الاستفراد بحاكم مصرف لبنان وأنه يجب “محاسبة غيره أيضًا كبعض مدراء المصارف وبعض السياسيين والمسؤولين الكبار في الحكومة وليس سلامة فقط”.

وبغضّ النظر عن المعركة القضائية التي قد يطول مسارها بين بيروت وباريس، فإن شيئًا ما تحرّكَ في لبنان. ولأن البلدَ يعيشُ حالةَ مراوحة وانسدادٍ وشَلل، ولأنه غير قادرٍ على الخروج من أزمته وعاجزٌ عن اجتراح تسوية بيتية لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية، فإنه يُراقبُ بيأسٍ صعوبةَ التوصّل إلى نقطة تقاطع إقليمية دولية تفرض على لبنان، كالعادة، ذهاب نوابه للاقتراع للرئيس العتيد. والأرجح أن قاضية فرنسا تتحرّك داخل مساحة تدخّلٍ خارجي قد تلتحق بها العقوبات التي كانت واشنطن وعدت بها قبل باريس وعواصم نفوذ أخرى لوقف المراوحة الخبيثة التي تقتل البلد يومًا بعد يوم.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى