الحَاكِمُ الخارجُ مِنَ القُمقُمِ والعَصِيُّ على القَفَص

البروفسور مارون خاطر*

ما لم يَستَجدّ أيُّ طارئٍ أو تتغيّرُ أيُّ مُعطيات، من المتَوقَّع أن يأفُلَ نَجمُ رياض سلامة “الرَّاقصُ المُحترِف على حافةِ الهاوية” في غضون اسابيع قليلة أو حتى قَبل ذلك. مع اقتراب موعد انتهاء ولايته الثلاثية العقود، أو حتى احتمال إنهائها من قِبل شركائه المتبوِّئين، يَتَسَبَّبُ الحاكمُ العابِرُ للعهود بما يشبه حالة الانفصام لدى رفاقه في الحُكم والصمود والتصدّي والإفلات والتمرير. بالنسبةِ إلى هؤلاء جميعًا الحاكمُ مجرمٌ هاربٌ، ومنقذٌ فارسٌ، ومُتسبّب بالانهيار، وصمّامٌ للاستقرار، ومتفلّت من العِقاب، ومُستحقٌ التجديد والتمديد، ومستأهلٌ التهنئة بعد الوعيد.

تسَلَّمَ رياض سلامة مقاليد الحاكميَّة بعد أن سكتت الطُّبول وقبل أن تَخمُدَ النيران. إستثمر في السلام والمصارف قبل أن يَنهَزِمَ السلامُ وتبقى المصارف ويثأر الدَين العام وخِدمَتُهُ. قرَّرت السياسة محو آثار الحرب من حساب الدَّولة فعاثت في القطاع العام فسادًا وفي المَال العام هَدرًا ونهبًا. ساعدت المصارف مصرف لبنان في بِناء جدار مَنع المضاربة والتلاعب على سوق القطع فأُدخلت إلى فَرَحِ تأمين استدامة تمويل دولة الفساد والفاسدين. شَكَّلَ المصرف المركزي مع المصارف والدولة ثُلاثيًا غير مُنفَصِلٍ كثير التضامن وقليل الاقتتال. دَخَلَت السياسة عرين مصرف لبنان والمصارف فأفسدته. اعتُبِرَت جميع الظروف “شديدة الخطورة” فتأمّنَ المرور عبر قانون النَّقد والتسليف لتمويل الفاسدين من ودائع المصارف عبر مصرف لبنان. لم تَطلب المجالس النيابية المُتعاقبة تَعديل أو إلغاء مواد المرور المُريب، لم تَتَوَرَّع الحكومات ولم تَرفع الرئاسات الصوت لِمَنع المَساس بمقدِّرات اللبنانيين، فباتَ جميع من حكم لبنان إلى جانب المصرف المركزي والمصارف شُرَكاءً في “نكبته”.

استفاد رياض سلامة من التداخل الوَقِح بين السياسة والسياسيين والمصارف. في مقابل عدم الاستقرار الذي طَبَعَ تاريخ لبنان الحديث أرسى، عبر تثبيته سعر الصرف، استقرارًا نقديًا طويل الأمد وباهظ الكِلفة. مع مرور السنوات وغياب الإصلاح واستشراء الفساد، تحوَّلَ الدَينُ العام إلى كرة ثلج مُتَدَحرِجَة لا يُمكن ايقافها فتقرّرَ أن يَتِمَّ فَتحُ الطريق أمامها. حوَّلَت استدامة تمويل الدولة وحَتميَّة شراء الوقت رياض سلامة من موظّفٍ يَشغل منصبًا في الدولة إلى حاجة لا يمكن الاستغناء عنها بل إلى ركيزةٍ أساسيَّةٍ تؤمّنُ ديمومةَ النَّهجِ السائد والمُستمرّ الى اليوم. أخرجت السياسة الحاكم من “قمقم” مصرف لبنان وجعلت منه ماردًا مُنَفّذًا مآربها ثم مَنَعَته من العودة إليه فَقَبِلَ. استُبدِلَ المَوقِع الوظيفيّ العام بشخص الحاكم الذي دامت له الحاكميَّة ولم تصل لغيره. لا يُمكن أن تُشفي محاكمة الحاكم منفردًا غليل اللبنانيين لأنه بات جليّاً أنَّ رياض سلامة ليس حيثيَّة قائمة بذاتها بل هو جُزءٌ من منظومةٍ مُتكاملة وزّعَت الأدوار في ما بينها وأمعَنَت في إدخال السياسة إلى المصرف المركزي، وفي المرور “المُقَونَن شكلًا” عبر مواد قانون النَّقد وفي تبذير أموال الدَّولة والمودعين.

في زمن الثورة أطَلَّ طَيفُ الحِساب فانَقسَمَ المُقترعون على ثياب لبنان ثم اتَّفَقوا وعيَّنوا رياض سلامة شريكًا برتبة “كبش فداء”! بَعد التجديد والتمديد والتهاني، إنقلبت السياسة بالشكل فقط على “الحاكم المَلَك”. دَفَع الشركاء نَظيرَهُم إلى الحساب من باب الشُبُهات الشَّخصية والعائليَّة في محاولةٍ لتلافي فتح أبواب جهنَّم عليهم من جهة ولِحَرف نَظَر اللبنانيين عن فَجوة المليارات الثلاث والسبعين من جهة أُخرى. يُبدي الكثيرون ممن عايشوا حاكمية رياض سلامة وتعايشوا معه تخوفَهم من تداعيات خروجه، في الوقت الذي تطالب ملائكتهم في الداخل والخارج بمحاكمته. يُبَيّن هذا التناقض السافر أن السلطة السياسيَّة التي صَنَعَت المارِد هي التي تجعل منه عَصيًا على القَفَص، على الرُغم من التهريج المُتَنَقل والمَحدود، خوفًا من أن يَدخُلَه الجميع إن دَخَل هو. إنقلابُ الخارج على الحاكم جاء بالشَّكل أيضًا. فَبَعدَ الجوائز والإطراءً والأجراس والغِلافات، تَدَحرَجَ الأمر فجأةً نحو المُحاكمات والتحقيقات والضغوطات ثم نحو المُذكَّرات. إلّا أنَّ كلَّ ذلك أتى في إطارِ ملفّات شخصيَّةٍ في حين غابت المُساءَلاتُ المُتَعلقة بالدولة وتَمويلها وكأن هناك غطاءً لم يُرفَع ولا نيَّةَ برفعه حتى الآن. لذلك يتَّسِمُ التحقيقُ الدولي الحالي بالمحدوديَّة ويبدو في الكثير من مفاصله ساذجًا، يَستبسلُ في البحث عن ملايين قليلة ويَتركُ ملياراتٍ كثيرة وكأنه نسخةٌ دولية من تهريج الداخل أو أنه يتحرّك استجابةً لِضَغط بعضِ المُفلسين الزائرين.

في لبنان تمنع السياسة المُحاسبة لِيَحمي الفساد المُتَجَذّر نَفسَهُ ويَمنَع اختراقه. يُسلَّط الضوء على الصغائر لِتَمرير الكبائر من دون حساب. تَحَوَّل َلبنان إلى “بلد ملاهي” يُغرِقُ ابناءه بمشاكلهم ليؤَمّن حاكموه استمراريتهم. تتماهى حسابات الداخل والخارج وتتطابق بشكلٍ مُريب فتنعكس تمييعًا وتسويفًا في جميع الملفَّات. لبنان بحاجة إلى مُحاكمات جماعيَّة، ولقراراتٍ ظنيَّة بِتُهَمٍ غير مخفَّفة. لن يكونَ ذلك ما لم يكن في بلدنا قضاءٌ يُحاكِمُ من يَمنعه اليوم من الذهاب أبعد من رياض سلامة. قضاءٌ يُنَفّذُ مذكّرات التوقيف في الداخل قبل أن يُطلَبَ منه تنفيذ تلك الآتية من الخارج. قَضَاءٌ لا يؤمن بالقُمقُم ولا يَهَبُ من صَنَع المارِد. قضاءٌ يتساوى الجميع أمامه. قضاءٌ يستعينُ بالتحقيق الدولي لكشف ملابسات تفجير بيروت وقتل أهلها، ثم لمحاسبة جميع من سَرَقَ أو ساهَمَ في سرقة أموال اللبنانيين تقصيرًا أو تنفيذًا أو تسهيلًا أو تواطؤًا أو تسامُحًا. قضاءٌ يَتَّسِعُ قَفَصُ اتهامِهِ لكلِّ من ظَلَمَ لبنان واللبنانيين ويجلس فيه رياض سلامة إلى جانب جميع شركائه. قضاءٌ يردع السياسة عنه ثم يُحاسِب السياسيين على تدخّلهم في مصرف لبنان ويُحاسِبُ حاكم المصرف ومجالسه المركزية وأصحاب المصارف. قضاءٌ يُعيدُ أموالَ الناس المَنهوبة من لبنان إلى أصقاع الأرض ويُجَرّم ناهبيها ومُهَربيها. قضاءٌ يفصل بين الظالمين والمظلومين. قضاءٌ يرفضُ أن تَنتَدِبَ “الزُّمرة” من يُحَاكَمُ بالنيابة عن جميع افرادها. قضاءً لا يقبل الاستخفاف بعقول اللبنانيين.

يُشبه رياض سلامة اليوم منصَّة “صيرفة” التي أوجَدَها. فالجميع يشتُمها في العَلَن ويَستَعملها في السِّر. الكُلُّ يُطالب برحيلها ويتمنّى في قرارة نَفسه ألَّا تَرحل.

رياض سلامة عالقٌ خارج القُمقُم وخارج القفص بقرارٍ سياسي محلي ودَولي الى أن يأتي ذلك اليوم وتلك الساعة…

لبنان ليس بلد المحاسبة بل أرض النسيان …

  • البروفسور مارون خاطر هو أكاديمي، كاتب وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى