لبنان في انتظار الصفقة

مايكل يونغ*

وسط تقارير متواترة عن قرب التوصّلِ إلى حلٍّ مُحتمَل للصراع اليمني في أعقاب المصالحة بين السعودية وإيران، ما هي آفاقُ حدوثِ إنجازٍ على مستوى الاستحقاق الرئاسي في لبنان؟ يرى المتفائلون أنّها جيدة، وقد يكونون على حق. لكن ما شهدناه خلال الأسابيع الأخيرة بدا أكثر تعقيدًا، إذ يسعى السعوديون و”حزب الله” وداعموه الإيرانيون إلى تحديد هامش المناورة المُتاح لهم في لبنان، وإلى إيضاح تصوّرهم لتطبيق المصالحة في المشهد اللبناني.

حين أبدى “حزب الله” دعمه لوصول سليمان فرنجية إلى سدّةِ الرئاسة في آذار (مارس)، أتى الرد السعودي سريعًا من خلالِ زيارةٍ أجراها السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري، إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي، أعرب فيها بحسب ما نقلَ بعض المصادر عن معارضة بلاده لترشيح فرنجية. لم يشكّل هذا الأمر مفاجأة لأن السعودية ترى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري هو في معسكر “حزب الله”، ورئيس الوزراء المُقبل سيكون أقرب إلى الرياض، وبالتالي فعلى رئيس الجمهورية المُقبل أن يقفَ على مسافةٍ وُسطى من الجانبَين نوعًا ما.

كان هذا التفكير سببَ انزعاجِ السعودية في بادئ الأمر من مساعي الفرنسيين الرامية إلى إقناعها بترشيح فرنجية. جادل الفرنسيون بأن تعيينَ رئيس حكومة مَوالٍ للسعودية على غرار نوّاف سلام قد يُرسي ثقلًا موازنًا مقابل رئاسة فرنجية، بيد أن الرياض ذكّرتهم بأنهم نسوا إدراج بري في حساباتهم. وزادت زيارة فرنجية الأخيرة إلى باريس حالة البلبلة. فقد دعاه الفرنسيون عقب محادثة بين الرئيس إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، اعتقد خلالها ماكرون أنه رأى الفرصة سانحة أمام فرنجية لتقديم ضمانات من شأنها طمأنة السعوديين.

في هذا الإطار، تشير برودة السعودية تجاه فرنجية إلى أن لبنان لا يزال على قائمة مشاغلها، على الرُغم مما قيل عن لامبالاتها بما يحدث فيه. تعتبر المملكة على ما يبدو أن مُصالحتها مع إيران تُمهّدُ الطريق أمامها للعبِ دورٍ أكبر على الساحة اللبنانية، يحق لها فيه توسيع نطاق خياراتها السياسية والدفاع عنها. وتشير سرعة مباشرة السلطات اللبنانية أخيرًا (بموافقة “حزب الله” بالطبع) بإغلاق قناتين تلفزيونيتين تابعتين للحوثيين تبثّان من بيروت، إلى استعداد الإيرانيين و”حزب الله” للانصياع إلى بعض مطالب السعوديين في البلاد.

ويتجلّى هذا الأمر بشكلٍ أوضح في موافقة “حزب الله” على فكرة التفاوض مع الرياض بشأن رئيس الجمهورية. إن اقتراحَ إجراء مُقايضة يتم بموجبها انتخاب فرنجية الموالي ل”حزب الله” رئيسًا للجمهورية مقابل اختيار نوّاف سلام المُوالي للسعودية رئيسًا للحكومة، ذُكر للمرة الأولى في صحيفة “الأخبار”، على لسان رئيس تحريرها ابراهيم الأمين الذي غالبًا ما يستعينُ به الحزب لجسِّ النبض حول طَرح ٍما. يرى الحزب أن المصالحةَ مع دول الخليج أمرٌ مرغوبٌ فيه نظرًا إلى الوضع المالي المتدهور في لبنان، باعتبار أن المساعدات العربية المُحتملة قد تُقلّل من اعتماد لبنان على صندوق النقد الدولي، الذي يعتبره الحزب مؤسّسة خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة. لكن هل من حدود للتنازلات التي ستقدّمها إيران و”حزب الله” للسعوديين؟

أتى الجواب في الأسبوع الماضي عند إطلاق صواريخ من جنوب لبنان نحو شمال إسرائيل. ووُجِّهت أصابع الاتهام نحو الجاني المزعوم “حركة حماس” الفلسطينية، لكن وحده المراقب الأكثر سذاجةً سيفترض أنَّ “حزبَ الله” لا علاقة له بما حدث، ولا سيما أن رئيس المكتب السياسي ل”حماس” إسماعيل هنية إلتقى في اليوم التالي الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله. وقد دارت نقاشات كثيرة حول قيام “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” والمجموعات السورية الموالية لإيران بإنشاء غرفة عمليات مشتركة في بيروت لتنسيق عملياتها العسكرية ضد إسرائيل، وهو تعاونٌ توقّعه بعض المُعلّقين المُطّلعين قبل عام.

أشارَ الهجوم ضمنيًا إلى أن المصالحة السعودية-الإيرانية لم تُغيّر كثيرًا في دور “حزب الله” الإقليمي، على الأقل طالما أن تصرفاته لا تؤثر مباشرةً في السعودية. من وجهة نظر الإيرانيين، بدا أن عدم قلقهم بعد الآن من ردة الفعل السعودية سمح لهم التركيز أكثر على محاربة إسرائيل. وعلى غرار الرياض، ترى طهران في المصالحة السعودية-الإيرانية بمثابةِ ضوءٍ أخضر للتأكيد على مصالحها في لبنان.

ماذا يعني ذلك لملف الانتخابات الرئاسية؟ يبدو أننا ماضون على الأرجح نحو صفقةٍ مُتكاملة لا تقتصر على انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، بل تشمل أيضًا الاتفاقَ على رئيسٍ للوزراء وبرنامجٍ حكومي توافقي، إضافةً إلى الحصول على بعض المساعدات المالية. وستؤدّي السعودية وإيران دورًا أساسيًا في هذه العملية. وإن كانت الأمور تستغرق وقتًا، فالسبب هو أن التفاوضَ حولَ صفقةٍ متعدّدة الجوانب تقتضي تلبية رغبات معظم الأطراف أمرٌ أصعب من الاتفاق ببساطة على اسم الرئيس.

قطر هي الجهة الأكثر قدرةً على أداء دور الوساطة في الجمع بين هؤلاء الأفرقاء المتباينين. أرادت فرنسا لعب هذا الدور، إلّا أنَّ تبنّي ماكرون غير الحكيم لترشيح فرنجية قوّضَ مصداقيتها. فحين استضافت باريس الاجتماع الخماسي حول لبنان في شباط (فبراير)، تجنّبَ المُشاركون بشكلٍ واضح الدخول في لعبة الأسماء، وفضّلوا تحديد مواصفات المرشّح الذي سيدعمونه، واشترطوا أن يكون في الدرجة الأولى “وسطيًا، ولا ينتمي إلى أيٍّ من المعسكرات السياسية، ولا يعتبره أيٌّ من الأطراف الأساسية مستفزًّا”، وفقَ ما نقله الصحافي منير ربيع عن ديبلوماسي عربي.

لم يعمد الفرنسيون، من خلال التسرّع وتسمية فرنجية، إلى تجاهل هذا النهج وحسب، بل اختاروا مُرَشَّحًا تتعارض مواصفاته تمامًا مع تلك التي عبّر عنها علنًا المشاركون في مؤتمر باريس. يُنظر إلى الفرنسيين الآن، بعد تبنّيهم ترشيح فرنجية، على أنهم أحدثوا انقسامًا داخل الخماسي، ما يخدم “حزب الله”. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، زار وزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية، عبد العزيز الخليفي، بيروت والتقى برئيس كتلة “حزب الله” البرلمانية، محمد رعد، ، وشخصيات أخرى. حتمًا، يتطلّب التوصّل إلى توافق واسع مزيدًا من الوقت، لكن على الأقل يبدو أن آلية التقدّم أصبحت قيد التبلور.

ربما يجدر بنا النظر إلى أماكن أخرى، وتحديدًا إلى سوريا، لاستشراف المسار الذي قد تأخذه الأمور. فلطالما برز تصوّرٌ بأنَّ الدول العربية ترتاح للتعامل مع لبنان عبر دمشق التي لا تزال تمتلك شبكات من العلاقات في البلاد، على الرغم من ضعفها. واليوم، في ظل مساعي إعادة سوريا إلى الحضن العربي، هل العودة إلى الماضي مُمكنة؟ صحيحٌ أن السوريين اليوم أضعف من أن يُعيدوا إحياء هيمنتهم السابقة، لكن إذا انضموا إلى “حزب الله” في دعم فرنجية في أي صفقةٍ متكاملة، من الممكن ربما أن يصبح زعيم “المردة” رئيسًا للجمهورية، شرط حصول الأحزاب اللبنانية الأساسية الأخرى على ما تريده في المقابل. وريثما تتّضح الأمور بالكامل، سيبقى المشهد مفتوحًا على جميع الاحتمالات.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى