رَدُّ الفِعلِ العربي الآتي!

رُغم انتفاضات “الربيع العربي” التي اندلعت بعد العام 2011، فإنَّ أنظِمَةَ الشرق الأوسط، ومعها أميركا، لم تتعلّم الدرس، حيث ما زالت تتجاهَلُ الغَضَبَ الشعبي، وهو أمرٌ سيُعَرِّضُها للخطر.

لماذا تستمر أميركا بالفشل في الشرق الأوسط؟

مارك لينش*

مُنذُ الهجومِ الذي شنّتهُ حركةُ “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، اهتَزّت منطقة الشرق الأوسط تحت وطأةِ الاحتجاجاتِ الشعبية الحاشدة. لقد تظاهرَ المصريون تضامُنًا مع الفلسطينيين حيث تعرّضوا لمخاطر شخصية كبيرة، ونزلَ العراقيون والمغاربة والتونسيون واليمنيون إلى الشوارع بأعدادٍ هائلة. في الوقت نفسه، كَسَرَ الأردنيون الخطوط الحمراء التي طال أمدها من خلال السير نحو السفارة الإسرائيلية، ورفضت المملكة العربية السعودية استئنافَ مُحادثات التطبيع مع إسرائيل، ويرجعُ ذلك جُزئيًا إلى غضبِ شعبها العميق من العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة.

بالنسبة إلى واشنطن، وجهةُ النظر هي أنَّ أيًا من هذه التعبئة لا يهمّ حقًا. فالزعماء العرب، على أيّةِ حال، هم من بين أكثر مُمارِسي السياسة الواقعية خبرة على مستوى العالم، ولديهم سجلٌّ طويل في تجاهُلِ تفضيلاتِ شعوبهم. ورُغمَ أنَّ الاحتجاجات كانت كبيرة، إلّا أنه كانَ من المُمكن السيطرة عليها. لقد شجع الرئيس المصري السابق حسني مبارك وغيره من الزعماء منذ فترة طويلة الاحتجاجات حولَ المعاملة التي يتلقّاها الفلسطينيون، الأمر الذي يسمح لشعبهم بالتنفيس عن غضبه وتوجيه هذا الغضب نحو عدوٍّ أجنبي بدلًا من الفساد الداخلي وانعدام الكفاءة. وبمرور الوقت، أو هكذا تقول الحجّة، سوف ينتهي القتال في غزة، وسوف يعود المحتجّون الغاضبون إلى ديارهم، وسوف يستمرُّ قادتهم في ملاحقة مصالحهم الشخصية، وهو النشاط الذي يتفوّقون فيه.

لدى صُنّاع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة أيضًا تاريخٌ طويل من تجاهُلِ الرأي العام في الشرق الأوسط – وما يُسَمَّى بالشارع العربي. في نهاية المطاف، إذا كانَ الزعماءُ العرب المُستَبِدّون هم من يتّخِذون القرارات، فليسَ من الضروري إذن التفكير في ما يصرخ به الناشطون الغاضبون أو ما يقوله المواطنون العاديون لمُنَظِّمي استطلاعات الرأي أو وسائل الإعلام. وبما أنّهُ لا توجد ديموقراطيات في الشرق الأوسط، فلا داعي للاهتمام بما يُفكّرُ فيه أيُّ شخصٍ خارج القصور. وعلى الرُغمِ من كلِّ حديثها عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، كانت واشنطن دائمًا أكثر ارتياحًا في التعامُلِ مع المُستَبدّين الواقعيين أكثر من التعامل مع الجماهير التي تعتبرها حشودًا مُتَطرّفة وغير عقلانية. ونادرًا ما تتوقّفُ للتفكيرِ في الكيفيّة التي قد يساهم بها هذا في سجلّها الكئيب من إخفاقات السياسات.

برزت رَغبةُ الولايات المتحدة في تجاهُلِ المخاوفِ الشعبية في العام 2003، عندما كان الرأي العام العربي مُعارِضًا بشدّة للغزو الذي قادته أميركا للعراق، ولكن معظم زعماء المنطقة تعاونوا مع الغزو ولم يَتّخذ أيٌّ منهم خطواتٍ لمعارضته. وعلى الرُغم من عقودٍ من الاحتجاجات الجماهيرية المُتكرّرة ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، حافظت الأردن ومصر على معاهدات السلام مع إسرائيل، حتى إنَّ مصر شاركت بنشاطٍ في حصار غزة. في الواقع، زادَ رضا الولايات المتحدة عن نفسها مع عدم تحقّقِ الانفجارات المُتَوَقَّعة للغضب الشعبي – على سبيل المثال، بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو قصف اليمن. اهتزّت قناعةُ واشنطن لفترةٍ وجيزة بسبب الانتفاضات العربية في العام 2011، لكنها عادت بكامل قوّتها مع استعادةِ الأنظمة الاستبدادية سيطرتها في السنوات التالية.

يبدو أنَّ هذا هو ما تتوقعه الولايات المتحدة وأغلب المُحلّلين السياسيين هذه المرة أيضًا. عندما ينتهي القصف أخيرًا، ستعود الحشودُ إلى منازلها وتجدُ أشياءً أُخرى تُثيرُ غضبها، ويُمكنُ أن تعودَ السياسةُ الإقليمية إلى طبيعتها. لكن هذه الافتراضات تَعكُسُ سوءَ فَهمٍ جوهريٍّ لكَيفيّةِ أهمية الرأي العام في الشرق الأوسط، فضلًا عن قراءةٍ خاطئة عميقة لما تغيَّرَ حقًّا منذ انتفاضات العام 2011.

لا يُوجَدُ ثرثرة خامِلة

يستخدمُ صنّاعُ السياسات مُصطَلَح “الشارع العربي” لتقليصِ الرأي العام الإقليمي إلى مجرّدِ صخبٍ جماهيري غير عقلاني ومُعادٍ وعاطفي، قد يتم استرضاؤه أو قمعه ولكنه يفتقرُ إلى تفضيلاتٍ أو أفكارٍ سياسية مُتماسِكة. ولهذا التعبير جذورٌ عميقة في الحُكمِ الاستعماري البريطاني والفرنسي، وقد تبنّته الولايات المتحدة عندما دخلت الحرب الباردة، واعتقدت أنَّ التعليم والرأسمالية قادران على تحويل الشرق الأوسط إلى صورةِ الغرب. وقد عزّزت هذه الأفكار سياسةَ واشنطن في التعاون مع الطغاة العرب الذين يستطيعون السيطرة على شعوبهم. وكان هذا الأمر يُناسِبُ الزعماء العرب، الذين كان بوسعهم أن يقاوموا الضغوط الغربية بشأن قضايا مثل إسرائيل أو التحوّل الديموقراطي من خلال الإشارة إلى التهديد المتمثّل في الانتفاضات الشعبية، والبُعبُع الإسلامي الذي ينتظرهم في الأجنحة ليأخُذ مكانهم.

قبل العام 2011، وصل مفهوم الشارع العربي إلى ذروته خلال ما يُسمّى بالحرب الباردة العربية في الخمسينيات، عندما حقّقَ القادة الشعبويون العرب نجاحًا كبيرًا في تعبئة الجماهير ضد الحلفاء الغربيين المحافظين باسم الوحدة العربية ودعم االفلسطينيين. إنَّ مشهدَ الآلاف من المتظاهرين الغاضبين وهم يردّون على خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر الإذاعية ويستجيبون من خلال الاندلاع في الشوارع في بلدانٍ عربية بما فيها الأردن، تركَ انطباعًا قويًا لدى صنّاع القرار السياسي الغربيين. وخلصت واشنطن، على وجه الخصوص، إلى أنَّ الشارع العربي كان خطيرًا، مما خلق فُرَصًا للسوفيات. إذًا، لم يَكُن من المفترض أن يتمَّ التفاهُمُ مع هذه الشعوب، بل يجب السيطرة عليها بالقوة. وبعد فترة طويلة من انتهاء الحرب الباردة، استمرَّ هذا التصوّر، على الرُغم من أنه يعتمد على سوءِ فَهمٍ أساسي للسياسة العربية، في دَفعِ سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فضلًا عن العديد من التحليلات السياسية للمنطقة. لقد كانَ من الأسهلِ دائمًا رَفضُ الدعم العربي للأراضي الفلسطينية باعتباره متجذّرًا في معاداة السامية الرجعية –أو التلويح بالغضبِ الشعبي من السياسات الأميركية التي يُرَوِّجُ لها السياسيون بسخرية– بدلًا من أخذِ أسبابِ غضبِ العرب على مَحمَلِ الجدّ والعثور على سُبُلٍ لمعالجة مخاوفهم.

لقد تَغَيَّرَت فكرةُ الشارع العربي إلى حدٍّ ما في التسعينيات والعقد اللاحق. تبلورت القنوات الفضائية، وخصوصًا قناة “الجزيرة” القطرية الفضائية، في هذين العقدين وشكّلت الرأي العام العربي. وقد أدّى ظهورُ استطلاعات الرأي العام المَنهَجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفيرِ قَدرٍ كبيرٍ من الوضوحِ بشأنِ الفروقِ الوطنية، والمواقف المُتَغَيِّرة استجابةً للأحداث، والتقييمات المتطوِّرة للظروف السياسية. لقد سمحَ ظهورُ وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعةٍ واسعةٍ من الأصواتِ العربية كسرَ سيطرةِ وسائل الإعلام وتحطيم الصورِ النمطية من خلال تحليلاتها المباشرة ومشاركتها التفاعلية. بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، بذلت واشنطن جهدًا كبيرًا في حرب أفكار، تهدفُ إلى مكافحة الأفكار المتطرّفة والإسلامية في جميع أنحاء المنطقة، وهو النهج الذي، رُغم أنه مُضلّل، يتطلّبُ استثمارًا كبيرًا في البحوث المسحية والاهتمام الدقيق بوسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعي الناشئة. ولكن بعد ذلك، حطّمت انتفاضات العام 2011 الشعور العام بالرضا عن استقرارِ الحكّام المستبدّين في المنطقة، وأظهرت أنَّ أصواتَ الناس بحاجةٍ إلى الاستماع إليها وأخذها في الاعتبار.

المُستَبِدّون يَهتَزّون لكنهم ينجون

لا تزال ذكرى انتفاضات 2011 تُخَيِّمُ على كلِّ حساباتِ استقرارِ النظام في الشرق الأوسط اليوم. حملت نتائج تلك الأحداث الثورية دروسًا مُختَلَطة. أظهر الانتشار السريع للاحتجاجات التي هدّدت النظام، من تونس إلى جميع أنحاء المنطقة تقريبًا، أنَّ الاستقرارَ المُفتَرَض للأنظمة الاستبدادية العربية كان في الغالب أسطورةً ووَهمًا. وللحظةٍ وَجيزة، لم يَعُد من المنطقي أن تتجاهلَ واشنطن خفايا الرأي العام العربي أو تُذعِنَ لتأكيداتِ الحكّام العرب المُنهَكين. من الواضح أنَّ الانتفاضات لم تَكُن مُجَرَّد ثَوَرانٍ لشارعٍ عربيٍّ طائش. بل إنَّ الثوريين الشباب الذين استحوَذوا على روحِ العصر أعربوا عن انتقاداتٍ مدروسةٍ وحاسمةٍ للحكّامِ المُستَبدّين الذين تحدّوهم، وحتى الإسلاميين في وسطهم تحدّثوا بلغةِ الحرية والديموقراطية. في البداية، تسابقت الحكومات الغربية للتعامل مع هؤلاء القادة الشباب المثيرين للإعجاب، وحاولت دعمَ جهودهم لتحقيقِ التحوّلات الديموقراطية والإتيان بأنظمةٍ سياسية أكثر انفتاحًا.

لكن مثل هذه الدروس سرعانَ ما تمَّ نسيانها مع استعادة الأنظمة العربية السيطرة من خلال الانقلابات العسكرية، والهندسة السياسية، والقمع واسع النطاق. لقد ساعد المُستَبِدّون في جميع أنحاء المنطقة المُستَبدّين الآخرين على استعادة قوّتهم، ووَقَفَ الغربُ ببساطةٍ مَوقِفَ المُتفرّج. على سبيل المثال، لم تتصرف الولايات المتحدة عندما دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى القمع الذي مارسته البحرين لاحتجاجاتها في العام 2011، وضخّت الدعمَ المالي والسياسي للانقلاب العسكري المصري في العام 2013. إنَّ استعادةَ الاستبداد التي أعقبت ذلك جلبت معها مستوى من القمع تجاوزَ بكثيرٍ ما كان موجودًا قبل العام 2011، حيث قامت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة بسَحقِ وإسكاتِ المجتمع المدني، خوفًا من عودة المعارضة. ساعدت المراقبة الرقمية على تنفيذ هذه الإجراءات القمعية، ما أعطى الأنظمة فهمًا دقيقًا بشكلٍ غير مسبوق لآراءِ مواطنيها وإمكانية ظهور حركات المعارضة.

وسرعان ما أدّت استعادة الاستبداد إلى عودةِ نموذجٍ قديمٍ للسياسةِ الخارجية الغربية يقومُ على التعاون مع النُخَبِ الاستبدادية وتجاهُلِ آراء الجماهير العربية. ولا يمكن رؤيةُ ذلك بشكلٍ أوضح من سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فمنذُ العام 1991 وحتى وقتٍ قريب، قامت واشنطن برعايةِ عملية السلام، جُزئيًا لأنَّ القادة الأميركيين كانوا يعتقدون أنَّ تقديمَ حلٍّ عادل للفلسطينيين أمرٌ ضروري لإضفاءِ الشرعية على التفوّق الأميركي. ومع ذلك، تجاهلت إدارة الرئيس دونالد ترامب ببساطة الرأي العام الفلسطيني والعربي عندما توسّطت في اتفاقيات أبراهام، التي طبَّعَت العلاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة، بدون حلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وشملت الاتفاقيات أيضًا السودان، وكذلك المغرب، بعد أن وافقت واشنطن على الاعتراف بسيادته على الصحراء الغربية.

على الرُغمِ من الخطاب الواعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية، تبنّى الرئيس الأميركي جو بايدن بكلِّ إخلاص نهجَ ترامب في التعامُلِ مع الشرق الأوسط، ودَفَعَ إلى التطبيع العربي-الإسرائيلي وتجاهلَ الديموقراطية وحقوق الإنسان. وبعد تنصيبه في العام 2021، تخلّى بايدن عن وعوده بوَضعِ حقوق الإنسان في المقامِ الأول وجَعلِ المملكة العربية السعودية منبوذة بسبب قتلها الصحافي جمال خاشقجي وحربها على اليمن. بدلًا من ذلك، سارعَ بيأسٍ غير لائق لإنهاء سياسات ترامب المُتمثّلة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل بدونِ حلِّ القضية الفلسطينية ودَرءِ المكاسب الصينية في المنطقة من خلال تأمين اتفاقٍ مع السعودية. وليس من قبيل المصادفة أنَّ هجومَ “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) تزامَنَ مع ضغوط إدارة بايدن الكاملة من أجل التوصّل إلى اتفاق تطبيع سعودي مع الدولة العبرية في خضم استفزازاتٍ غير مسبوقة من قبل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. كانت هناك علاماتٌ كثيرة على الاستياء العربي من التطبيع، وتحذيراتٌ لا حصرَ لها من انفجارٍ وشيكٍ في غزة، لكن واشنطن تجاهلت الأمر باعتباره مجرّد مثالٍ آخر على الاحترامِ المُضَلِّل لشارعٍ عربي اعتقدت أنَّ حلفاءها المُستَبدّين يمكنهم السيطرة عليه. لقد كان ذلك خطأ.

وذلك لأنَّ الرأي العام مهم في الشرق الأوسط. السياسة مهمّة، حتى في ظلِّ الأنظمة الاستبدادية، وفي الشرق الأوسط تتحرّكُ القوى السياسية بسلاسة بين المحلّي والإقليمي. يجب على القادة الناجحين أن يتعلّموا إتقانَ كلا البُعدَين من اللعبة. وجُزءٌ من ضمان بقائهم في الحكم وعلى قيد الحياة هو معرفة كيفية الردّ على الاحتجاجات، ويعتمد الرد على القضية المطروحة. يستمع الديبلوماسيون الغربيون إلى الحكام العرب الذين لن يُضَحّوا حتى بمصالحهم البسيطة من أجل الصالح العام إذا تمكّنوا من الإفلات من العقاب. وبطبيعة الحال، فإنَّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سيعقدُ صفقة مع إسرائيل إذا اعتقدَ أنها ستخدُمُ مصالح حكومته ويُمكنهُ امتصاصَ الغضب الشعبي بدون الكثير من المخاطرة. لكن هذه ال”إذا” كبيرة. يهتمُّ الأمير محمد وغيره من القادة العرب بما قد يؤدّي إلى الإطاحة بهم. في أغلب الأحيان، يهتمون بشيءٍ واحد أكثر من أيِّ شيء آخر: البقاء في السلطة. وهذا لا يعني فقط منع الاحتجاجات الجماهيرية التي تُهدّدُ النظام بشكلٍ واضح، بل يعني أيضًا الانتباه إلى مصادر السخط المُحتَملة والاستجابة عند الضرورة لتفاديها. ومع معاناةِ كلِّ دولةٍ عربية تقريبًا خارج منطقة الخليج من مشاكل اقتصادية حادة، وبالتالي مُمارسة أقصى قدر من القمع، يتعيّن على الأنظمة أن تكونَ أكثر حذرًا في الاستجابة لقضايا مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

من ناحية أخرى، يُرَكِّزُ الزعماءُ العرب أيضًا على اللعبة السياسية الإقليمية ويتنافسون بشراسة لوضع أنفسهم باعتبارهم المُدافعين الأكثر فعالية عن هوياتهم ومصالحهم المشتركة. ولهذا السبب فإنهم غالبًا ما يُقدِمون على تحرّكات غير جدّية وأنانيةً حيث يدّعون مثلًا خدمة مصالح الفلسطينيين أو الدفاع عن الشرف العربي. إنَّ القادة العرب يهتمّون بما يمنحهم ميزة أو يهددهم في لعبة السياسة الإقليمية شديدة التنافسية – سواء كان ذلك ضد المتنافسين العرب الآخرين على النفوذ أو ضد قوى أخرى، بما في ذلك تركيا وإيران. وقد أصبحَ البُعدُ الإقليمي للمنافسة أكثر حدّة على مدى العقد الماضي، بعد أن سلطت الانتفاضات العربية الضوء على الكيفية التي قد تُهدّدُ بها التطورات السياسية في مختلف أنحاء المنطقة بقاء أي نظام محلي. وعلى وجه الخصوص، تنافست قطر بقوة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حول التحوّلات السياسية والحروب الأهلية في سوريا وتونس وأماكن أخرى، سعيًا إلى تشكيل الرأي العام ولكن أيضًا الاستجابة له.

بناءُ رَدِّ الفِعلِ العكسي

اليوم، من الواضح بشكلٍ صارخ أنّهُ كان من الخطَإِ أن تَفتَرِضَ الولايات المتحدة أنها تستطيعُ تجاهُلَ الرأي العام العربي بشأن معاملة الفلسطينيين. في الواقع، إنَّ العربَ لم يفقدوا اهتمامهم بهذه القضية. في الواقع، لم تفرض الأنظمة العربية قبضة الموت على التعبئة العامة. ويجد كلُّ نظامٍ تقريبًا الآن جماهيره مُعَبَّأة بشكلٍ غير عادي بسبب ما يعتبرونه حملة الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد غزة وبرنامج التهجير والاحتلال الجديد. إنَّ المستوى الناتج من التعبئة والغضب الشعبي يتجاوز الغضب الذي اندلع في العام 2003 بسبب الغزو الأميركي للعراق، ومن الواضح أنّهُ يؤثّرُ في سلوك أنظمة المنطقة. وفي الواقع، يمكن رؤية درجة وقوة التعبئة الشعبية ليس فقط في وسائل الإعلام والحشود في الشوارع، ولكن أيضًا في الانتقادات غير المعهودة لإسرائيل والولايات المتحدة التي تُعَبّرُ عنها الأنظمة التي تحتاج إلى الحصول على هذا الحق من أجل البقاء. وحتى مصر، الشريك الوثيق لأميركا، هددت بتجميد اتفاقيات كامب ديفيد إذا غزت إسرائيل رفح أو طردت سكان غزة إلى سيناء.

وقد تَوَحَّدَت وسائل الإعلام العربية، التي كانت مُجَزَّأة ومُستَقطَبة سياسيًا بشدّة خلال الحروب السياسية الإقليمية في العقد الماضي، إلى حدٍّ كبير في الدفاع عن غزة. لقد عادت قناة “الجزيرة” الفضائية، لتعيش أيام مجدها من خلالِ تغطيةِ الفظائع هناك على مدار الساعة، حتى مع مقتل صحافييها أثناء القتال على أيدي القوات الإسرائيلية. لقد عادت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا — ليس تويتر أو فايسبوك وإنستغرام الخاضعة للرقابة الشديدة، بقدر ما عادت التطبيقات الأحدث مثل تيك توك، وواتساب، وتيليغرام. إنَّ الصورَ ومقاطع الفيديو الصادرة من غزة تطغى على الدعاية التي تُقدّمها إسرائيل والولايات المتحدة وتتجاوز بسهولة التغطية الخافتة التي تُقدّمها وسائل الإعلام الغربية. الناسُ يرون الدمار. كلُّ يومٍ يواجهون مشاهد مأساة لا تُصدَّق. وهم يعرفون الضحايا بشكلٍ مباشر. إنهم لا يحتاجون إلى وسائل الإعلام لفَهمِ رسائل الواتساب من سكان غزة المذعورين أو لمشاهدة مقاطع الفيديو المُرعبة المنتشرة على نطاق واسع على تيليغرام وتيك توك.

لقد دأبَ الناشطون والمثقّفون العرب على تطويرِ حججٍ قوية حول طبيعة الهَيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وهي تدخلُ الخطابَ الغربي بطُرُقٍ جديدة. كانت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، والتي تزعم وقوع إبادة جماعية إسرائيلية في غزة، سببًا في نشرِ العديدِ من هذه الحجج في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وداخل المنظمات الدولية. وقد فعلت ذلك من خلال الإشارة ليس فقط إلى تصريحات القادة الإسرائيليين، بل أيضًا إلى الأُطُرِ المفاهيمية حول الاحتلال والاستعمار الاستيطاني التي طوَّرها المثقَّفون العرب والفلسطينيون. إنَّ حربَ الأفكار التي سعت الولايات المتحدة إلى شنّها في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، بدعوى جلب الحرية والديموقراطية إلى منطقة مُتخلّفة، قد عكست مسارها، حيث أصبحت الولايات المتحدة في موقفٍ دفاعي بسببِ نفاقها في المطالبة بإدانة حرب روسيا على أوكرانيا ودَعمِ حربِ إسرائيل على غزة.

منطقة على غَيرِ هُدى

يحدثُ كلُّ هذا في عصرٍ يَتَّسِمُ، حتى قبل الحرب بين إسرائيل و”حماس”، بتراجُعِ تفوّقِ ونفوذ الولايات المتحدة وتزايُدِ استقلالِ القوى الإقليمية. لقد سعت الدول العربية الرائدة على نحوٍ مُتزايد إلى إظهار استقلالها عن أميركا، وبناء علاقات استراتيجية مع الصين وروسيا وملاحقة أجنداتها الخاصة في الشؤون الإقليمية. كان استعدادُ الأنظمة العربية لتحدّي التفضيلات الأميركية سمةً مُميَّزة للعقد الماضي، حيث تجاهلت دول الخليج السياسات الأميركية تجاه التحوّل الديموقراطي في مصر، وأرسلت الأسلحة إلى سوريا على الرُغمِ من تحذير واشنطن، ومارست الضغط ضد الاتفاق النووي مع إيران. وقد أصبح هذا الاستعداد للاستهزاء برغبات الولايات المتحدة أكثر وضوحًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد شهد العامان الماضيان رَفضَ معظم أنظمة الشرق الأوسط التصويت مع واشنطن ضد روسيا، ورفض المملكة العربية السعودية اتباع خطى الولايات المتحدة بشأن تسعير النفط.

مع ذلك، فإنَّ دعمَ واشنطن غير المحدود لإسرائيل في تدميرها لغزة، أدّى إلى وصولِ العداءِ طويل الأمد تجاه السياسة الأميركية إلى ذروته، وأثار أزمة الشرعية التي تُهدّدُ كامل صرح التفوّق التاريخي للولايات المتحدة في المنطقة. من الصعب المُبالغة في تقدير مدى تحميل العرب الولايات المتحدة المسؤولية عن هذه الحرب. ويمكنهم أن يروا أنَّ مبيعات الأسلحة الأميركية وحقّ النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة هما وحدهما اللذان يسمحان لإسرائيل بمواصلة حربها. إنهم يدركون أن الولايات المتحدة تدافع عن إسرائيل بسبب أعمالٍ مماثلة لتلك التي أدانت واشنطن روسيا وسوريا بسببها. ويمكن رؤية مدى هذا الغضب الشعبي في فكّ ارتباط عدد كبير من العاملين الشباب في المنظمات غير الحكومية والناشطين عن المشاريع والشبكات المدعومة من الولايات المتحدة والتي تم بناؤها على مدى عقودٍ من الديبلوماسية العامة، وهو التطوّر الذي أشارت إليه الديبلوماسية “أنيل شيلين” في استقالتها المبدئية من منصبها في وزارة الخارجية الأميركية في آذار (مارس).

لا يزال البيت الأبيض يتصرّفُ وكأنَّ لا شيءَ من هذا يهم حقًّا. سوف تبقى الأنظمة العربية على قيد الحياة، وسوف يتلاشى الغضب أو يُعاد توجيهه نحو قضايا أخرى، وفي غضون أشهرٍ قليلة، تستطيع واشنطن العودة إلى العمل المهم المتمثّل في التطبيع الإسرائيلي-السعودي. هذه هي الطريقة التي عملت بها الأمور تقليديًا. لكن هذه المرة قد تكون مختلفة. إنَّ الفشلَ الذريع في غزة، في لحظةِ تحوّلِ القوى العالمية وتغييرِ حسابات القادة الإقليميين، يُظهِرُ مدى ضآلة ما تعلّمته واشنطن من سجلّها الطويل من الإخفاقات السياسية. إنَّ طبيعةَ ودرجةَ الغضبِ الشعبي، وتراجُعِ التفوُّقِ الأميركي وانهيار شرعية أميركا، وإعطاء الأولوية للأنظمة العربية لبقائها الداخلي، فضلًا عن المنافسة الإقليمية، تشير إلى أن النظام الإقليمي الجديد سيكون أكثر اهتمامًا بالرأي العام من النظام القديم. إذا استمرت واشنطن في تجاهل الرأي العام، فسوف تقضي على خططها لليوم التالي عندما تنتهي الحرب في غزة.

  • مارك لينش هو أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @abuaardvark
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى