حكومةٌ تحت المراقَبة

سجعان قزي*

تفصيلٌ أن نكونَ مع هذه الحكومة، وتحصيلٌ حاصِلٌ أن نكونَ ضِدَّها. فتَمنّي النجاحِ لها في معالجةِ القضايا اليوميّةِ، الَّلهُمَّ عبرَ المؤسّساتِ الشرعيّة، لا يَحجُبُ جُنوحَ أكثريَّتِها نحو المحورِ السوريِّ-الإيرانيِّ رُغمَ التَبنّي الفرنسيِّ الجانِحِ نسبيًّا هو أيضًا، ورُغمَ خصوصيّةِ تقديرِنا رئيسَها وبعضَ وزرائِها الأكفياء تقنيًّا وأخلاقيًّا. إنَّ اعتبارَ هذه الحكومةَ “مجلسَ إدارةِ” الأزمةِ الاقتصاديّةِ والمعيشيّة، لا يَحولُ دونَ اعتبارِها أساسًا “مجلسَ حكمِ” المنظومةِ السياسيّةِ والعسكريّةِ الشرعيّةِ وغيرِ الشرعيّةِ التي انْقلبَت على مفهومِ لبنان ووجودِه ودورِه وهويّتِه، واتّبعَت سياسةً تَقصَّدَت إفقارَ الشعبِ وإفلاسَ البلد.

بمنأى عن ذلك، مُنِحَت هذه الحكومةُ فترةَ سَماحٍ، لكنّها أخفَقَت في استخدامِها، إذ اعْتكَفَت منذ يومِها الأوّل عن مواجهةِ ظواهرَ تَـمُسُّ دستورَ لبنان وسيادتَه، وحدودَه شرقًا وجنوبًا، وتنالُ من استقلاليّةِ قضائِه. هكذا فقَدت ثقةَ الشعبِ قبلَ نَيلِ ثقةِ المجلسِ النيابيِّ المختصَرِ فيها، وسَقطَ الفارقُ بين السلطتَين التشريعيّةِ والتنفيذيّة، وبين المُحاسِبِ والمُحاسَب.

منذ سنواتٍ والبياناتُ الوزاريّةُ ليست خريطةَ طريقِ الحكومات، إنّما مُجرّدُ مَـمرٍّ تقليديِّ لتبريرِ التصويتِ على الثقة. والعَجَلةُ الاستثنائيّةُ التي تُلِيَ فيها البيانُ الوزاريُّ ونوقِشَ وصُوِّتَ عليه، يؤكّدُ أنَّ الثقةَ مُعلَّبةٌ مثلُها مثلُ التأليف. ليس في هذا البيانِ الوزاريِّ سيفٌ. وليس فيه روحُ شعب. وليست فيه روزنامةٌ تنفيذيّة. وليست فيه ثقافةٌ سوى نِصفِ سطرٍ من أصلِ تسعِ صفحات. غَلبَت على البيانِ الوعودُ على الالتزاماتِ، والمساوماتُ اللغويّةُ على وضوحِ المواقف. جاء البيانُ سَرْديًّا في وطنٍ سَئِمَ الحَكواتيّين، وتقليديًّا في ظرفٍ استثنائيّ، ومُسرِفًا في مواضيعِه كأنَّ الحكومةَ باقيةٌ دهرًا.

وإذ اعتبرنا البيانَ الوزاريَّ أفضلَ بيانٍ لحكومةٍ وُصِفَت بأنّها أفضلُ المُمْكِن، فهو يَبقى شبيهَ بياناتِ الحكوماتِ السابقة. هذا بيانُ ما قبلَ الانهيار، وما قبلَ الثورة، وما قبلَ انفجارِ المرفإِ. هذا بيانُ ما قبلَ هِجرةِ الشبابِ والعائلات، وما قبلَ الهيمنةِ الإيرانية، وما قبلَ خَطْفِ الشرعيّة. هذا بيانُ ما قبلَ الإضرارِ بالعَلاقاتِ مع العربِ والعالم، وما قبلَ إلغاءِ حقِّ عودةِ اللاجئين الفلسطينيّين، وما قبلَ القرارين 1559 و1701. هذا النوعُ من البياناتِ الذي يَتميّزُ بالتحايلِ على القضايا الوطنيّةِ والسياديّة وبتغطيةِ الحالاتِ غير الشرعيّة، هو ما أدّى بلبنان إلى الانهيارِ والعُزلةِ والإفلاس.

إن “حزبَ الله” الذي يَدّعي خرقَ الحِصارِ واستجرارَ المحروقاتِ وبيعَها، هو أصلًا أحدُ أسبابِ الحِصارِ على لبنان وفي لبنان. هذه الحكومةُ، أو بالأحرى المُعادلةُ السياسيّةُ التي أتت بها، تُجسِّدُ ميزانَ قوى غيرَ ديموقراطيٍّ وغيرَ دستوريٍّ. ومن شأنِ التغاضي عنه أنْ يُثبِّتَ سيطرةَ “حزبِ الله” داخليًّا ووصايةَ إيران خارجيًّا. ولا عَجبَ من ذلك طالما أنَّ شخصيّاتٍ وكُتلًا تدّعي المُعارَضةَ وتَذُمُّ بالعهدِ أثناءَ إقامتِها وأثناءَ سفرِها، تُعطي الثقةَ للحكومةِ كأنَّ الحكومةَ مؤلفةٌ من رئيسِها فقطـ، أو هي حكومةُ رئيسِ جُمهوريّةٍ آخَر، أو “حزبِ الله” آخَر.

ليس الاستياءُ من الطبقةِ السياسيّةِ فقط وراءَ الانكفاءِ العربيِّ والدُوليِّ عن لبنان، بل هو الاستياءُ خصوصًا من غالِبيّةِ قوى المعارضَةِ المُبعثَرةِ والضائعةِ والمُتقاعِسَةِ، التي لا تَقوم بجَهدٍ عمليٍّ لتغييرِ الواقعِ والحدِّ من سيطرةِ “حزبِ الله” على البلاد. وإذا ما تحرّك بعضُ مجموعاتِها، فمِن خلال تَجمّعاتٍ ولقاءاتٍ عدديّةٍ تَفتقِدُ النوعيّةَ القياديّة.

إنَّ التَموْضُعَ الانتخابيَّ مُختلِفٌ عن التَموْضُعِ النضاليّ. فالجماعاتُ الحاكمةُ لا تَسقُطُ بالانتخاباتِ فقط، والمُعارَضاتُ لن تربحَ الانتخاباتِ إذا تأهّبَت لها من دونِ مشروعٍ نضاليٍّ مُوازٍ. عبثًا نَسعى إلى تجييشِ الشعبِ من دونِ مادّةٍ نضاليّةٍ إيجابيّة. الهزيمةُ بعدَ معركةٍ ليست مُعيبةً، المُعيبُ هو الهزيمةُ من دونِ معركة.

إن مُعارضةَ الحكومةِ إعلاميًّا، كما يَحصُلُ، أسوأُ من تأييدِها سياسيًّا. والقوى والدولُ التي اسْتولَدت هذه الحكومةَ تُسعِدُها هذه المعارضةُ المُحتَشِمِة. واللافتُ أنَّ غالِبيّةَ القوى التي تَعتبرُ نفسَها أنّها “المعارضَة”، تسيرُ بالسُرعةِ ذاتِـها التي تَتحرّكُ فيها الدولُ التي تَعطُفُ عليها وليس بسُرعةِ عذاباتِ المواطنين. هكذا نُلاحِظُ أنَّ القِوى السياسيّةَ التابعةَ المحورِ الإيرانيِّ-السوريِّ هي في مَوقِعِ الهجومِ مثلما هو محورُها في لبنانَ والـمِنطقة، فيما القِوى السياسيّةُ التابعةُ المحورِ الأميركيِّ-الخليجيِّ هي في مَوقِعِ الدفاعِ مثلما هو محورُها. العادةُ أن تكونَ المعارضَةُ في موقِعِ الهجومِ، والموالاةُ في موقِعِ الدفاع.

هجوميّةُ المحورِ الإيرانيِّ-السوريِّ في لبنان، تَكشِفُ أنّه لم يكتفِ بمُكتسباتِه بَعد، ويَعتزمُ استكمالَ انقلابِه على الدولةِ والنظامِ ما دامت الطريقُ مفتوحةً أمامَه، ولا حواجزَ ثابتةً ولا طيّارة. ودفاعيّةُ القِوى المعارضِة توحي بأنّها في مأزَقٍ بسببِ انقساماتِها، واختلافِ أولويّاتِها، وخيبتِها من حلفائِها العربِ والدوليّين، والتمييزِ القائمِ بين الأحزابِ المناضِلةِ، وهي أساسُ المقاومة، وجمعيّاتٍ مُستَحْدَثة.

حان الوقتُ لتُدرِكَ المعارضةُ أنَّ قوّتَها الأساسيّةَ تَنبَعُ من ذاتِها ومن شعبِها ومن تَصدّيها العَملانيِّ لقوى السلطةِ، وليس من تأييدِ الخارجِ لها. لا يَذكُرُ التاريخُ أنَّ دولةً دَعمَت شعبًا لا يقاوِم أوّلًا. وأصلًا، ما ابْتعَدَ أصدقاؤنا عنّا إلا حين لاحظوا قَبولَنا بالأمرِ الواقع وبَلادَتنا في مواجهتِه واكتِفاءَنا بمعارضةِ رفعِ العَتب. لقد أظَهرتْ تجربةُ السنواتِ الأخيرةِ أنَّ المعارضةَ الخجولةَ أضَرَّت بالمعارضةِ وبالانتفاضةِ الشعبيّة، وأفادَت السلطةَ الحاكمةَ وحلفاءَها. وها هي الحكومةُ الجديدةُ، بعد الحكومةِ السابقةِ، تؤكِّدُ ذلك. إن التغييرَ من خلالِ النظامِ لا يُلغي العملَ النضاليّ، خصوصًا حين الخصمُ لا يَعترفُ بالنظام.

الواقعُ اللبنانيُّ والصداقاتُ الشخصيّةُ والحساباتُ المذهبيّةُ ليست مِعيارًا كافيًا لتحديدِ موقفٍ إيجابيٍّ من الحكومة. فعلاوةً على أحداثِ الشرقِ الأوسطِ المُزمِنةِ، التطوراتُ المستَجِدّةُ في العالمِ باتت، بحكمِ ارتهانِ قوى لبنانيّةِ للخارج، تُشكّلُ أيضًا عناصرَ أساسيّةً في تكوينِ موقِفنا، لا سيّما أنَّ هذه الحكومةَ هي مَكْرُمَةٌ فرنسيّةٌ لإيران وزكاةٌ إيرانيّةٌ للبنان، بل لحلفائِها فيه. إنَّ لبنانَ المتَّصِلَ بالنزاعِ الإيرانيِّ-الأميركيِّ وبالتوتّرِ الأميركي-الفرنسيِّ، صار يتأثّرُ كذلك بالصراعِ حول أفغانستان، وبتحجيمِ دورِ فرنسا في المحيطِ الهادئ. وما نخشاه، أن يؤدّيَ غيابُ المعارضةِ اللبنانيّةِ القويّةِ إلى تفاهُمٍ أميركيٍّ-إيرانيٍّ في الجنوب، على غِرارِ التفاهم الفرنسيِّ-الإيرانيِّ في الحكومة.

نحن في مرحلةٍ مصيريّةٍ لا مجالَ فيها للمساومةِ والمُسايرةِ والتردُّد. ويَجدُرُ أن نرُكّزَ نضالَنا على الوطنِ لا على الحكومة. الوطنُ هو الثابتُ والحكومةُ مَشهَدٌ عابر. صحيحٌ أنَّ تأليفَ الحكومةِ اسْتغرقَ ثلاثةَ عشَرَ شهرًا، لكنَّ إنشاءَ دولةِ لبنان على أرضِ الوطن استغرق قرونًا. وخلافُ ما نَظنُّ: المُبادرةُ في يدِنا إذا نحن بادَرنا وانْتفَضْنا.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على:   @AzziSejean
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى