ذاتَ ليلة… أُنسي الحاج

هنري زغيب*

كنا معًا، ذاتَ ليلةٍ صيفية، عائدَين من زيارة أَصدقاء في الجبل، وكان الليلُ كثيرًا. فجأَةً همَسَ حدِّي في السيارة كأَنه يخاطب شخصًا آخرَ غيري: “أَپُّوكالـيـپـتيّ هذا الليل… متى آخِرُه؟”.. وأَحسسْـتُه غاب عني، فرُحت أَقود سيَّارتي في تُؤَدَةٍ حافيةٍ كي لا أُزعجَه حيثُما غاب.. وطَوال منحدرات الطريق، كان حدِّي كأَنه كاهنٌ إِغريقيٌّ يصغي صامتًا إِلى عرَّافةِ الــ”دِلْفْ”، أَو راهبٌ بوذيٌّ يأْخُذُني معه إِلى “پـاغودَة” اعتراف.

وهو هكذا، أُنسي.. غالبًا ما كان مخطوفًا إِلى “هناك” مجهول.. مجهولٌ لنا معلومٌ له.. ذات يوم من 1977 دَعَوتُهُ يُشارك باحتفالٍ كنتُ أَقَمْتُهُ في الذكرى الثلاثين لغياب الياس أَبو شبكة (قاعة النادي اللبناني للسياحة-جونيه).. ومما جاء كلمته: “لم يكُن أَبو شبكة رجُلًا من الزُوق يكتُب الشعر بل كان هو ذاته شعرًا تقمَّص رجُلًا من الزُوق”.. ولا إِخالُ هذا القول ينطبق على شاعر كما يتماهى في شخصية أُنسي.

مُغايرًا أَطلَّ من مطالعه.. لا منذ نُصُوص “لن” (1960) بل حتى قبْلها، من مقدِّمته: “ما دام الشعر لا يُعَرَّف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أَن يتأَلَّف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر”.. ومن يومها راح يتوغَّل ضدَّ التيَّار في إِقليمٍ “لا يقاوَمُ إِلَّا بالجنون.. وأَولُ الواجبات التدمير”.. وظلَّ يتوغَّل حتى اشتقَّ “إِقليمَه” الخاص بلُغةٍ خاصة وأَدواتٍ خاصة بدون ذاكرة لغوية، فكان في اللغة صاحبَ “طريقة”، فيها المباغَتَة، وفيها المفاجَأَة، وفيها التركيب الأُعجوبي، وفيها الدهشة المبدعة (الصادمة أَحيانًا) بتَجَاوُرِ كلماتٍ واستعاراتٍ ليس مأْلوفًا تَجَاوُرُها عادةً في غابة اللغة.. لذا قصائدُ أُنسي الحاج لا تُقرَأُ بِـمعناها المباشِر ومضمونها الظاهر على سطح مفرداتها بل بالدخول إِلى الـمَدار الداخلي فيها: إِلى معنى المعنى.. وبدون تَـمَدْرُسها، وبدون التنظير لها.. فلا هي سوريالية ولا هي رمزية ولا هي نيوكلاسيكية… هي أُنسي الحاج وكفى.

“شاعرُ قصيدة النثر حرٌّ، تَعْظُمُ حاجته إِلى اختراعٍ متواصلٍ لُغَةً تُحيط به، تُرافق جَرْيَهُ، تلتقط فكرَه الهائلَ التشوُّشِ والنظامِ معًا” (مقدمة “لن”).. وها هو فعَل، وها هو “اخترع” لغتَه، لغةً خاصةً اشتقَّها من داخل اللغة، وبَصَمَ عليها وأَمَّن ديمومتها وخَتَمها.. لنثره كما لشعره اخترَعَها، لغةً نابضةً متوهِّجة متوتِّرة كسَرَت الـمُتَتَاليات النفسية والذهنية المأْلوفة في اللغة العتيقة.

كان لا بُدَّ من أُنسي الحاج لــ”خضِّ” اللغة كما “خضَّها” من قبله جبران.. ومنذ غياب أُنسي، وهذه اللغة الـمُشْمسة تَبحث عمَّن يخضُّها بعده كي لا يَذبُل توهُّجُها الـمُتَسَنْبِل في صباحات الجمال.

لم أَتمكَّن من حضور السهرة المتميِّزة احتفاءً بصدور مجموعته الشعرية الكاملة في جزءٍ واحد (عن منشورات “المتوسط”، ميلانو – 542 صفحة حجمًا وسيطًا).. لكنني “احتفيتُ” بالكتاب، وها هو أَمامي، بأَناقة طباعته، وتَنسيق الستّ المجموعات، ومقدِّمة الناشر خالد سليمان الناصري وانبهاره الوفيّ بأُنسي، وكلمة ندى (لُؤْلُؤَة أُنسي) تنادي والدَها الساكنَ نبضها أُعجُوبيًّا: “تعالَ… أَدعوكَ إِلى احتفالٍ يَليق بولائم شعركَ… تعالَ وذُقْ من يدي زبيبًا عتَّقْتُهُ لكَ، وارتَوِ من كُرومٍ عصَرْتُها براحَتَـيَّ… لن أَستبدلَ الخوابي بضجيج الكُؤُوس… تعالَ لِمرَّةٍ آتية، وأَعِدُكَ: لن تكون ماضيًا”.

وإِنه كذلك أُنسي، الحبيب أُنسي: لا يُنادَى ماضيًا من الغياب بل يُؤْتى من الـمَجيْء، من الحصاد اليومي، من العودة الـمُتَتَالية التي شهق لها أَمام حبيبته “الرسولة” فَــ”كَانَـها” مثلما “كانَتْهُ” حتى الذوَبان الحلُولي ونادانا.. وما دام في الأَرض حُبٌّ سيبقى أُنسي ينادينا: “تعالَوا … كَلِّلُوا رؤُوسَكُم بذَهب الدخُول، وأَحرِقوا وراءَكم… أَحرِقوا وراءَكم… أَحرِقوا العالَـمَ بشمْس العودة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى