القَتلُ في يَومِ الحُبّ

رشيد درباس*

أضاعوني وأيَّ  فتًى أضاعوا
عبد الله بن عمرو  العرجي

في أحد أيام كانون الأول/ديسمبر من العام 2004، ذهبتُ بمعيّة الفضل شلق إلى منزل الرئيس رفيق الحريري لندعوه إلى عشاءٍ يُقامُ بمناسبة زفافِ وَلَدَينا، فأكّدَ حضوره. ثم انتقلنا إلى الحديث في السياسة، فقال لنا: “أنا خرجتُ من الحُكم، ولا أريدُ أن أتَوَلّى رئاسة الوزراء، ولكنني  لن أخرُجَ من عملي الوطني، وسأخوض الانتخابات في الدوائر المُتاحة”. ثم أردف: “ماذا يستطيعون فعله معي بعد ذلك؟ ربما يقتلونني، فيكون عمري قد انتهى، ولكنني لا أظنّهم يجرؤون”. خرجنا من عنده واجمين. وفي موعد العشاء في أحد المطاعم حضر، فما كدنا نأخذُ معه الصور حتى انقطعت الكهرباء، فاستأذن منّا وغادر المكان. بعد هذا بحوالي شهرين وقع ما تَوَجّسه رفيق الحريري فجرى اغتياله في الوسط الذي أراده متوسّطًا بين اللبنانيين، يجمع شملهم ويلمُّ ما فرّقته الأحداث العبثية.

أستذكر هذا، لا من باب الإدلاء بشهادة، فلقد انتهت المحاكمات وأسفرت عن نتائجها، ولكن لمحاولة استكشاف السرّ الذي أقفل باب الرضا وفتح  باب الغضب، إذ لم يبقَ بوقٌ لم يُنْفَخْ  في حملة الكراهية التي استهدفته، بل إنَّ مَن يُعيدُ الاستماع إليه في حواره مع وليد المعلم، قبيل الجريمة، يلحظ المرارة العميقة من رجل أضمر الخير فأطلقوا عليه الشرّ الذي لم يحتسبوا عواقبه.

نذكرُ جميعًا أن السيد حسن نصرااله قال:” إن اغتيالَ الرئيس الحريري ليس جريمة، بل هو زلزال مدمّر ستكون له ارتداداته في لبنان والمنطقة”. ولقد كان مُحِقًّا في هذا، ولكن سواه لم يكن محقًّا على الإطلاق عندما قال غاضبًا:” إن رفيق الحريري فقيد عائلته فقط” مُتعسّفًا وغامطًا حق الملايين بتشارك الحزن والدموع على من فتح لهم في فترة، كُوَّة أمل  وأشعرهم ببعض الاطمئنان إلى مستقبلهم.

من هنا أعودُ إلى البحث عن السبب الذي كسر المعادلة الآمنة وذهب إلى الزلزال المختلف عن زلازل الطبيعة التي تستغرق عشرات الثواني وتُخلّف ويلات مرعبة، ثم تعود إلى باطن الأرض، فيما تغييب رفيق الحريري لم يستطِع أن يكبح طوال ثمانية عشر عامًا الرجرجة المتمادية للدولة، والانهيار المُتسارع لمقوّماتها.

لقد شكّل رفيق الحريري صيغةً حاول فيها أن يُبعِدَ النار عن الحقول الواعدة، ولم ينخرط في أيِّ مشاريع مُعادية لسوريا، بل حاول تلافي فتح ملف الغضب بالقبول بالتمديد للرئيس إميل لحود بعدما هُدِّدَ مواجهةً بتكسير لبنان عليه وعلى وليد جنبلاط وجاك شيراك، فجاء الاقتراح بتعديل الدستور من الحكومة التي يرئسها، كما كان يسعى إلى تخطّي مأزق ازدواج السلطة بين المقاومة والدولة، ليضع كل شيء في حَيِّزه الطبيعي،  بل كان أرشق مَن سارَ بين الألغام في مجالٍ خطر حيث يتحكّم القلق السوري بتفاصيل شؤون الدولة ويتوجّس “حزب الله” من التآمر عليه، فقدّمَ لكلٍّ منهما الضمانات العامة والكفالات الشخصية، سعيًا منه إلى أن يُتْرَكَ لاستكمال مشروعه القائم على فكرة استرداد الدولة من العقل الميليشياوي، وتوطيد بُناها التحتية، وتوثيق جسورها مع دول العرب والعالم، فأرانا بأمّهات الأعين رئيس فرنسا يدير صالة مزاد لجمع المساعدات للبنان؛ وأقام مع أميركا وروسيا وإيران علاقات متوازنة، وتمعّن في التجارب الناجحة ل”مهاتير محمد” و”لي دوك ثو”، وحاول أن يحاكيها، فكانت ربما، تلك هي اللحظة التي صدر فيها الحُكمُ عليه، لأن أرباب الاستبداد والتحكّم والتبعية، يتساهلون في أشياء كثيرة ولا يتسامحون مطلقًا مع مَن يُحاول أن يبني دولةً حقيقية، فهي  في عرفهم مقبولة فقط كشكلٍ مُجَوَّف المضمون سهل الانقياد.

لقد خان حُسْنُ الظن رفيق الحريري، وَفَاتَهُ أنَّ استكمالَ الدولة لمُقوّماتها وبناء مؤسّساتها وأجهزتها، وإطلاق ورشات التنمية، وبناء الجسور ووسائل الاتصال، وتأمين الكهرباء المستدامة، وإنشاء شبكة اتصالات تجعل لبنان في قلب العالم، وتحديث البنية القضائية، وتحفيز العجلة الديموقراطية أمورٌ تجعلُ البناء عصيًّا على مَن يريد دخوله من غير أبوابه الشرعية، فكأنه بذلك كان يستدرجهم إلى نسف البِنَاء والبَنَّاء، لأن لبنان حتى الآن، لم يزل ساحة، والساحة بحد ذاتها تنفر من العمران، ولذلك لم يعد وجوده مستحبًّا لا في السلطة ولا في المعارضة التي أعدَّ نفسه لزعامتها من خلال كتلة نيابية وازنة يحصل عليها في الانتخابات التي كانت على الأبواب.

ما كنّا نعرفه أن موكبه كان يُحاطُ بحمايةٍ إلكترونية مُضادة للتفجيرات اللاسلكية، لكن الشاحنة القاتلة آثرت القرب على البُعد، فانفجرت في محيطٍ لا ينجو فيه ناج لا سيّما ذلك الرجل المُقلِق.

لقد دخلَ رفيق الحريري إلى الحياة السياسية وسيط خير، وحامل خيرات، وفي مرّةٍ سمعته يقول إن شدّة القصف منعته من مغادرة قصر بعبدا الذي زاره لإبلاغ الرئيس أمين الجميل رسالة ما؛ فلما التقاه في الصباح التالي، سأله الرئيس عن كيف أمضى ليلته، فأجاب: كنتُ أفكّرُ كم كانت ثروتي تزداد في البورصات كل دقيقة من تلك الليلة، وكيف أنا ضئيل رُغمَ ثرائي، فما قيمة الإنسان بلا وطن، وما قيمة المال وقد وصلنا إلى سوء المآل؟ وعندما أنجز الطائف كانت نقطة التقاء سعودية-سورية-دولية فوقع عليه الخيار، فما كان منه إلّا أن قدّمَ عربونًا بانتشال العاصمة من ركامها ومتاريسها وبتوحيدها شرقًا وغربًا وجناحًا وبحرًا، ثم دعا إليها الأقربين والأبعدين ليشهدوا على روعة  العقل والعمارة، وعلى حيوية الشعب الذي ما إن رفعوا عنه دورة الحرب حتى عاد ليبني دار السلام.

غريبًا كان بالنسبة لنا، أن ما أنجزه رفيق الحريري كان كلّه محطّ هجومٍ شرس، بأسلحة متعددة منها التهديد بحرق السوليدير، واحتلال الوسط التجاري شهورًا طويلة، لكن الغريب أكثر أنه لم يبقَ من عمران السنين التي يرذلونها إلّا ما أنجزه، وهذا ما دعاني لأستنتج مما نقرأه اليوم في طوالع أحوالنا، أن الإثم الحريريَّ الذي لأجله اغتيل الرئيس الشهيد،  يتمثلُ في أنه ليس مقبولًا أن يكون لبنان بلدًا طبيعيًّا محكومًا بدستورٍ مُحترَم، له استقلاله، وسياساته المتناسبة مع مصالحه. وأن مصالح الدولة والشعب اللبناني لا ينبغي لها أن تتقدّمَ على المصالح الخارجية التي اتخذت من لبنان قواعد لها تنطلق منها إلى الجوار وما بعد بعد الجوار. وأنه لا يُرادُ للبرلمان أن يكون مقرًّا لرسم السياسات وانبثاق الحكومات وسَنِّ القوانين، بل مسرحًا للدُمى التي تجتمع وتفترق بشدِّ خيوطها من يدٍ بعيدة. وأن الحكومة يجب أن تظلَّ منصّة لإصدار القرارات المُمَلّاة، وهي في انصرافِها إلى أعمالها أو تصريفها لها ممنوعةٌ من الصرفِ الإنتاجي، لأنها في اجتماعاتِها وبطالتها مرهونة للعبةٍ سياسية أخرى لا شأن لها بالكهرباء والدواء والتعليم. وأن النظامَ المصرفي القوي الذي يمكن أن يتحكّمَ بالدولة لا محلّ له في هذه الساحة، بل إن أكثر المسموح به التغاضي عن صرّافي الدراجات الذين يتعهّدون إيصال المال إلى البيوت. وأنه يمتنع على الدولة أن ترسم علاقاتها الخارجية وفق ما يتلاءم مع مصالحها، بل وفق ما يخدم المحور.

لكن، ومن باب الإنصاف، كان الرئيس الحريري يضع نفسه في خدمة تحرير لبنان، بدليل ما فعله عندما ارتكب الاسرائيليون مجزرة قانا في نيسان/إبريل من العام 1996، وكان يُولي الجيش عنايةً كبيرة، ويؤمن بأن السلطة المزدوجة تجربة فاشلة وميؤوس منها، لا تؤدّي إلّا إلى تخريب الأرض التي تقف عليها.

لقد غُدِرَ برفيق الحريري عندما اختلف البثّ السياسي عما كان يألفه، فلقد تغيّرت الموجات، فيما ظلَّ هو يبثُّ على موجاته التي من أجلها انخرطَ في السياسة. وما حاول أن يفك الشيفرة الجديدة حتى انطلقت الشرارة القاتلة، مُعلِنَةً أنه غير مرغوب فيه، لا رئيسًا للحكومة ولا رئيسًا للمعارضة، فَبِوَّؤوه سدّة الشهادة في عيد الحب، وأظنّهم يفتقدونه الآن جدًا لأنهم لا يجدون بعده مَن يقيلهم من عثراتهم. فلقد كان يستنبط لكلِّ عقدةٍ حلًّا، أما هم فيبحثون في كلِّ حلٍّ عن عقدة. كان يدمن اجتراح الأمل، ويتفننون في نشر المرارات، يهوى البناء ويعيثُ فيهم حبُّ الخراب.

في أحد تعريفات الزمن أنه “هبة الطبيعة العظمى، الذي يحول دون حدوث كل شيء في آن واحد”.

أتُرى الطبيعة حجبت عنّا هذه الهبة في الرابع عشر من شباط/فبراير 2005 فتوقّفَ نظام الزمن وراحت كل المصائب والنكبات والكوارث  تحتشد على رؤوسنا في آن واحد؟!

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى