ندرة المياه في العالم العربي تضعه أمام مُستقبلٍ مجهول

تظهر دراسة أجراها البنك الدولي واستمرت سبع سنوات وانتهت في العام 2009 أن معدل فقدان احتياطي المياه العذبة في العالم العربي يعادل تقريبًا حجم البحر الميت بأكمله ما يجعله أعلى معدل لفقدان المياه العذبة على وجه الأرض خلال ذلك الوقت. ومع ذلك فإن بعض أجزاء المنطقة يُسجّل بعض أعلى معدلات استهلاك المياه للفرد في العالم

سد النهضة الإثيوبي: هل يقود إلى حرب بين مصر والسودان وإثيوبيا؟

هلال خشان*

هناك عاملٌ واحدٌ على الأقل يجمع بين العديد من الحضارات القديمة التي ازدهرت في العالم العربي، وهو وفرة المياه. لكن المنطقة العربية الواقعة في غرب آسيا وشمال أفريقيا قد أضحت من أكثر مناطق العالم ندرة في المياه، خصوصًا وأنَّ الطلبَ يتزايد عليها بسببِ النموِّ المُطرِد في عدد السكان، والذي بلغ 400 مليون نسمة في العام 2016، ومن المرتقب وصوله إلى 670 مليونًا تقريبًا بحلول العام 2050. تنشأ نسبة لا يُستهان بها من الأزمات السياسية التي تعانيها المنطقة عن النزاعات المُعلقة ذات الصلة بالمياه، وتتضمن سد النهضة الإثيوبي العظيم، وتحويل إسرائيل لروافد نهر الأردن، وسحب تركيا لمياه نهريّ دجلة والفرات، ولذا فإنها مشكلة عسيرة الحل للدول العربية.

أبعاد الأزمة

رُغمَ أن المنطقة العربية تُشكّلُ 10 في المئة من مساحة العالم إلّا أنها تحتوي أقل من 1 في المئة من المساحات المائية الجارية في العالم، ونحو 2 في المئة فقط من إجمالي هطول الأمطار. وفقًا للأمم المتحدة، فإن مفهوم ندرة المياة ينطبق حيثما تقل الإمدادات السنوية عن 1000 متر مكعب للفرد، ونجد أن 16 من إجمالي 22 دولة عربية يبلغ متوسط نصيب الفرد فيها مستوى يقل عن 500 متر مكعب، ويُمثّل هذا الرقم النقطة التي تجعل بالإمكان الحديث عن “ندرة مطلقة”. ترجع المشكلة جزئيًّا إلى الموقع الجغرافي في المناطق الجافة وشبه الجافة، ولهذا فإن 30 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة قد تتعرّض للتصحّر بسبب الندرة الحادة في المياه. من ناحيةٍ أخرى، فإن التغيّر المناخي قد فاقم القضية أيضًا، إذ يشير أحد التقارير إلى أنَّ اقتصادات الدول العربية قد تتكبّد خسائر تصل إلى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب ندرة المياه المترتبة على التغيّر المناخي.

نقص المياه مثير للقلق بشكل خاص في مصر، والتي سيتزايد سكانها بحلول العام 2050 لما يفوق 175 مليون نسمة يعتمد السواد الأعظم منهم على نهر النيل في توفير احتياجاته المائية. بدأ سد “النهضة الإثيوبي العظيم” بالتأثير فعلًا على مصر، حيث سيُخفّض حصتها بما لا يقل عن 20 مليار متر مكعب سنويًا. كما أن ارتفاعَ درجات الحرارة سيُفاقم الوضع لأنه يؤدّي لتبخر إمدادات المياه ويُقلل هطول الأمطار على امتداد الساحل الشمالي.

فرضت الصعوبات المتزايدة في إنتاج المواد الغذائية الأساسية (القمح، وزيت الطهي، والبقوليات، واللحوم) على الدول العربية زيادة الاعتماد على الواردات، ولكن ارتفاعَ أسعار المواد الغذائية؛ الناجم جُزئيًّا عن استخدامِ أنواعٍ من الحبوب في إنتاج الوقود، قد جعل تلك الواردات عصية المنال على معظم المستهلكين العرب. يُعَدُّ التوسع في الزراعة المخرج الوحيد، ولكنه يطرح عبئًا أكثر جسامة على إمدادات المياه.

 

تتصل الندرة في العديد من البلدان بالقصور في توفر الوقود. في لبنان مثلًا، يعاني ما يفوق الأربعة ملايين شخص ندرةً حادة في المياه بسبب الأزمة المستمرة للوقود في البلاد. أما سوريا التي تجاورها فتُعاني من تبعات مشابهة بسبب شحّ الطاقة، وعلى النحو اللبناني، فإن السودان الزاخر بالمياه تكمن مشكلته في سوء التوزيع، وخصوصًا للاستخدامات المنزلية، بسبب النقص الحاد في الديزل الضروري لتشغيل محطّات الضخ.

تُعاني الجزائر جفافًا استمرّ لثلاث سنوات، وأعلنت وزارة الموارد المائية وجود أزمة في إمدادات مياه الشرب تغطّي ولايات عدة في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد، ولذا صاغت الحكومة خطة طوارئ لمعالجة الأزمة تتضمّن تشييد محطات جديدة لتحلية مياه البحر، وإصلاح المعطوب منها، وحفر الآبار. وقد انخفض مستوى الأمطار السنوية في المغرب إلى أقل من 600 متر مكعب للفرد، وعليه قررت الحكومة وقف دعمها المالي لمزارعي البطيخ والأفوكادو والحمضيات، وهي محاصيل تستهلك مياهًا وفيرة، وفي إطار استعدادها لمجابهة أعتى موجة للجفاف منذ أربعة عقود، تخطط الحكومة أيضًا لمعالجة الإسراف والاستغلال العشوائي للمياه. رغم ذلك، فإن المرجح ألّا تَحلُّ تلك الإجراءات المشكلة القائمة، إذ يتطلب الحلّ طويل الأجل إنشاء محطات لتحلية المياه، ولكن البلاد تفتقر الأموال اللازمة.

يُعَدُّ الإفراط في الري أهم الأسباب لهدر المياه في المنطقة العربية، إذ تُمثّلُ الزراعة 84 في المئة من استهلاك المياه، وبسبب الهدر وسوء الإدارة، يجري توظيف 50 في المئة فقط من الموارد المائية في المنطقة، أي ما يعادل 340 مليار متر مكعب. لذا، فإن السياسات التي تُعزّزُ الترشيد في استخدام المياه واستكشاف المصادر الجديدة ستضطلع بأهمية متزايدة في حلّ مشكلة الندرة المُستشرية في المنطقة.

الموارد العابرة للحدود

يصل ثلث المياه المُتجددة المتوفّرة للدول العربية من أنهارٍ تنبع خارج الإقليم، ومن أبرزها نهر النيل الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا في أوغندا وبحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية. يقع سد النهضة الإثيوبي الكبير على نهر النيل ويمثل مصدرًا للتوتّر منذ أعوام، حيث خفّض المشروع حصة مصر من مياه النيل من 55.5 مليار متر مكعب إلى أقل من 40 مليار متر مكعب سنويًا. تصرّ إثيوبيا على تحديث اتفاقيتيّ تقاسم مياه النيل لعاميّ 1929 و 1959، وبأنه لا يمكن عدُهُما أساسًا للمباحثات، قائلة بأنهما أُبرِمَتا أثناء الحقبة الاستعمارية، وأنهما لم تمنحا حصة عادلة لدولة المنبع.

ثمة مصدران آخران ينبعان خارج المنطقة العربية هما نهرا دجلة والفرات واللذان يتدفقا عبر هضبة الأناضول. أضحى النهران سببًا مُتفاقِمًا للخلافات بين تركيا وجارتيها سوريا والعراق، إذ تتّهم الأخيرتان أنقرة بتجاهل حقوق الحصول. يحظى النهران بمكانة سامية في مخطط التنمية التركي العملاق المسمى مشروع جنوب شرق الأناضول، والذي يبتغي إنشاء 22 سدًّا، و19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية، علاوة على ري 1.7 مليون هكتار من الأراضي الزراعية.

أما في العراق، فإن نهريّ دجلة والفرات يُغذيان معظم محطات المياه والإنتاج الزراعي، والذي تراجع خلال العقود الثلاثة المنصرمة بسبب ندرة المياه، وإغراق إيران للأسواق العراقية بالمنتجات الرخيصة. تراجع تدفق المياه من تركيا عبر النهرين في العراق في العام 2021 بنسبة 50 في المئة، وفي ذات الوقت حوّلت إيران فروع نهر دجلة لبناء السدود.

أقرّت أنقرة رسميًّا بتخفيض تدفّق مياه نهر الفرات إلى العراق وسوريا من 500 متر مكعب متر في الثانية إلى 200 متر مكعب في الثانية، ولكن مسؤولي الحكم الذاتي في شمال وشرق سوريا يقولون إن الكمية الحقيقية 125 مترًا مكعبًا في الثانية. قاد التخفيض الحاد إلى توقف التوربينات الكهرومائية عن العمل، ما أفضى بدوره إلى مشاق في ريِّ المحاصيل.

إدارة المياه

الأردن من أكثر دول العالم معاناةً من ندرة المياه، حيث يشهد عجزًا سنويًا بنحو 15 مليون متر مكعب. تُخزّن سدود الأردن حاليًا 80 مليون متر مكعب من المياه أقل من احتياطات العام 2020. يُعد نهر الأردن وحوض اليرموك أهم مصادر المياه في البلاد، ولكن تدفقاتهما تتذبذب بسبب التغيّر المناخي. تشيرُ التقديرات إلى أن نهر الأردن يفقد 85 في المئة من مياهه عبر التبخّر بسبب ارتفاع درجات الحرارة. شهد الأردن في العام 2021 انخفاضًا بنسبة 60 في المئة في هطول الأمطار مُقارنةً بالعام الذي سبقه، كما تعاني البلاد أيضًا تراجعًا في مستويات المياه الجوفية والسطحية، ولكن الإمدادات المتجدّدة تغطّي نصف حاجة المملكة فحسب.

أبرم الأردن في العام 2013 اتفاقية مبدئية مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية لربط البحرين الأحمر والميت عبر قناة، وإنشاء مجمع للتحلية شمال مدينة العقبة الأردنية، على أن يشرع الموقعون الثلاثة في تحلية مياه البحر الأحمر وتقاسمها. تُعد الصفقة جُزءًا من خطة الأردن التي تهدف لنقل 150 مليون متر مكعب من المياه المُحلاة من العقبة الى عمّان، ولزيادة طاقة الاستيعاب في سدوده إلى 400 مليون متر مكعب. كما وافقت إسرائيل أيضًا على منح الأردن 50 مليون مترًا مكعبًا إضافيًا من المياه من بحيرة طبريا، ولكن دراسة الجدوى ما زالت قيد النظر، ولذا فإن مصير ذلك الجُزء من الاتفاقية ما زال غامضًا.

تلجأ غالبية الدول العربية للمياه الجوفية لتخفيف النقص الحاد، ولكن بصفتها موردًا غير متجدّدٍ فإنها لا تمثل حلًّا طويل الأمد للمشكلة، ولكنها في ذات الوقت تضطلع بدورٍ مهم في استراتيجيةٍ أوسع نطاقًا لتغطية الطلب المتزايد. يوجد في العالم العربي ثلاثة أحواض جوفية تشمل المنظومة الأكبر للمياه الجوفية في العالم؛ المسماة شبكة مستودع الحجر الرملي النوبي، والتي تغطي مساحة شاسعة من الأراضي المصرية والسودانية والليبية. تحتوي تلك المنظومة 150,000 كيلومتر مكعب من المياه الأحفورية. أما ليبيا فتستخرج 2.3 كيلومترين مكعبين سنويًا عبر مشروع النهر الصناعي العظيم للشرب والري. توجد أيضًا منظومة للمياه الجوفية شمال الصحراء الكبرى في الجزائر وجنوب تونس، والتي تُعد –إلى جانب المياه الجوفية في الساحل- المصدر الرئيس للمياه في الاستخدامات المنزلية والزراعة. ومن جهتها، توظّف المملكة العربية السعودية بفاعلية حوض الديسي الجوفي الممتد من شمال البلاد إلى جنوب الأردن مما قد يُحوّله إلى مصدر محتمل للصراع بين البلدين في المستقبل. تجدر الإشارة إلى أن الدول العربية استخدمت في العام 2019 أيضًا ما يصل إلى 344 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية في المنتجات الزراعية.

تعتمد الدول العربية في منطقة الخليج على مياه البحر المُحلاة والتي تُمثل أكثر من 75 في المئة من استهلاكها المائي، ويقع نحو 35 في المئة من محطات تحلية المياه في العالم في المنطقة العربية، وبخاصة في شبه الجزيرة العربية. خلال العام الفائت، حلّت المملكة العربية السعودية منفردة 2.2 ملياري متر مكعب من المياه تساوي 20 في المئة من المياه المُحلاة في العالم. وبدورها تعالج سلطنة عُمان، البلد الذي يعاني ندرة حادة في المياه، 100 في المئة من مياه الصرف الصحي، وتُعيد استخدام 78 في المئة منها. أما بقية دول مجلس التعاون الخليجي فتعالج نحو 80 في المئة من مياه الصرف الصحي، وتُعيد استخدام 45 في المئة منها تقريبًا.

مستقبلٌ مجهول

يُعيقُ نقص الأموال الدول العربية غير المنتجة للنفط عن البحث عن حلولٍ لندرة المياه، وعليه فإن دول مجلس التعاون الخليجي الست هي الدول العربية الوحيدة التي حققت الاكتفاء الذاتي من المياه عبر إنشاء محطات تحلية المياه على شواطئ الخليج العربي وبحر عُمان، ولكنها أيضًا تواجه مستقبلًا غامضًا إذ يتزايد نموها السكاني وتتراجع قدرتها على الإنفاق.

قد تُمثّلُ المياه المتدفقة عبر الوديان العديدة في المنطقة جُزءًا من الحل، ورُغمَ أن حجم المياه فيها غير معلوم فإن المرجح أن يصل إلى عشرات الملايين من الأمتار المكعبة، وذلك بسبب الأمطار الغزيرة التي تشهدها المنطقة. على أيِّ حال، فإن تكاليف إنشاء البنية التحتية اللازمة لتخزين المياه يفوق الإمكانات المالية للدول غير المنتجة للنفط.

سيبقى سد النهضة الإثيوبي سببًا رئيسًا للتوتر في دول مصب النيل، وبخاصة مصر، حيث أنها بلدٌ من المحتمل أن يشهد نقصًا حادًا في المياه، بغض النظر عن السد، ويرجع ذلك بشكل رئيس للزيادة الضخمة في عدد السكان. تحاول مصر منذ الستينيات الفائتة بلا جدوى السيطرة على النمو السكاني لغرَضَي استقرار الاقتصاد وتحسين مستويات المعيشة. أما بقية دول المنطقة، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي الغنية، فإنها ستواجه ذات المصير، إذ أن البقاء على سُدة الحكم يمثل لمعظم الأنظمة العربية هاجسًا أهم من إيجاد الحلول لمشكلة مصيرية كهذه.

  • الدكتور هلال خشان هو أكاديمي لبناني وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. يركز بحثه على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط ، مع التركيز على الخليج العربي. يمكن متابعته عبر تويتر على: @HKhashan
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “http://www.geopoliticalfutures.com. جميع الحقوق محفوظة لـ”Geopolitical Futures, LLC“.
  • قام بتعريب المقال لـ”أسواق العرب” الزميل مُعتَصِم الحارث الضوّي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى