هل سَقَطَ ال”بريكسِت”؟

محمّد قوّاص*

لافِتٌ التقريرُ المُتشائمُ الذي صدرَ عن صندوق النقد الدولي بشأن الحالة الاقتصادية التي تُعانيها بريطانيا. ستكون مُعدّلات النمو في هذا البلد الأقل بين دول مجموعة السبع الكبرى، وحتى أقل مما ستُحقّقه دولةٌ كروسيا التي تَستَنزِفُ حربُ أوكرانيا مواردها. وفق التوقعات، سيشهد الاقتصاد البريطاني هذا العام انكماشًا بنسبة 0.6 في المئة مقابل نموٍّ في روسيا بنسبة 0.3 في المئة. والمفارقة أنَّ ما تُصدِره المؤسسات المالية الدولية والمحلية من وقائع مُدَعَّمة بالأرقام والإحصاءات، لا تجد لدى الحكومة في لندن وحتى لدى النُخَب الحاكمة أصداءً انقلابية تكون على مستوى الحدث.

ولئن ترتبط معضلة بريطانيا الاقتصادية بأزمات العالم المُتناسلة من حقبة جائحة الكوفيد-19 والمُرتبطة بتداعيات الحرب في أوكرانيا، غير أن لفداحة “الانهيار” البريطاني علاقة مباشرة بقرار المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروبي (المعروف ببريكست) إثر استفتاء العام 2016. وعلى الرُغمِ من أنَّ مُجتَمَعَ الأعمال وخبراء الاقتصاد باتوا يجاهرون بهذه الحقيقة، إلّا أنَّ معظم سياسيي لندن ما زالَ يكابرُ في هذا الصدد ويؤجّل الاعتراف بالعلّة الحقيقية لأسبابٍ تتعلّق بالمصالح السياسية.

لا يُريدُ حزبُ المحافظين الذي قاد حملة ال”بريكست” أن يُجادِلَ في مسألة قد تقضي عليه مستقبلًا وتَسُدُّ بوجهه في الانتخابات التشريعية المقبلة آمال الاحتفاظ بالسلطة والحكم. في المقابل، يقارب حزب العمال المسألة بحذرٍ شديد، وإن كان بعض منابره يُثيرُ مسألة خطيئة البريكست وسيناريوات العودة عنها. فإذا كان جلّ الكتلة الناخبة للمحافظين مُناصِرًا لمغادرة “أوروبا”، فإن جانبًا وازنًا من كتلة العمال الانتخابية صوّتَ لمصلحة البريكست ولا يريد الحزب فقدان ولائها.

على هذا لا يجد رئيس الحكومة البريطانية، ريشي سوناك، ضغوطًا برلمانية وحتى شعبية واسعة تدفعه لإعادة قراءة ما أنتجه استفتاء العام 2016، وقاد إلى تخلّص المملكة المتحدة من عضويتها داخل الاتحاد الأوروبي. حتى أنه، من موقع الواثق بصوابية خيار البريكست وفوائده لبريطانيا (وفق بيان أصدره في آخر الشهر الماضي لمناسبة الذكرى الثالثة للبريكست)، يدفع باتجاه مصادقة مجلس العموم على قوانين تتخلّص البلاد من خلالها من آلاف القوانين الأوروبية التي ما زال معمولًا بها، وهو ما سيُطلِق ردود فعل في بروكسل تُشعِلُ حُكمًا حربًا تجارية بين بريطانيا وأوروبا.

تكشف اللحظة البريطانية الحرجة عن هذا الصراع الخبيث بين العقائد ولغة العقل. تكشف أيضًا عن قدرة الغرائز الإيديولوجية على تحريك العامة، وتحفيز النُخَب وجرّها باتجاه حالة إنكارٍ لا تعترف بما أوقعه البريكست من مصاعب، قد ترقى إلى مستوى الكارثة في اقتصاد البلاد. والأمرُ ليس جديدًا في حكاية تشكّل البريكست فكرة ثم سياقًا ثم قرارًا، ذلك أن النافخين به والذين انتزعوا من ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين آنذاك قرار تنظيم استفتاء العام 2016، روَّجوا لمبتغاهم بالنهل من خزّانٍ عقائديٍّ قومي يُمجّد حرية بريطانيا ويعد بالعودة بها إلى زمن كانت “لا تغيب عنها الشمس”.

لم تُغيّر النخب السياسية كثيرًا تلك الخلاصات الإيديولوجية. أراد اليمين المحافظ الانقلاب على الاتحاد الأوروبي والطلاق من زواج بات صعبًا ينال من “عظمة” بريطانيا ويُكبّل أجنحتها. وأراد اليسار العمالي بالنسخة التي كان يقودها جناح يسار اليسار بزعامة جيريمي كوربن الانتقام من النزعة الليبرالية المتوحّشة لـ”أوروبا” وتصفية حساباته مع إدارة الاتحاد في بروكسل. انتهى الاستفتاء إلى ما انتهى إليه بسبب حماسةٍ عقائدية محافظة تدعم البريكست، وبلادة عقائدية عُمّالية لم تجهد كثيرًا لإسقاطه.

وإذا ما كان للعقائد مكانٌ ومكانة في مرحلة الإعداد والوعود والاستشراف، فيُفترَضُ أن يهزل زخمها في مرحلة الوقائع التي تنتج واقعية. ترصد التقارير هذه الأيام تدنّي أسعار الجنيه وانخفاض مستويات النمو وارتفاع معدلات البطالة وتراجع القيمة الشرائية وتدهور الخدمات العامة، لا سيما الصحية منها. تتحدث أيضًا عن تراجع التجارة الخارجية وتوسّع العجز في موازناتها وفشل حكومات البريكست في نسج علاقات استثمارية واقتصادية مع اقتصادات العالم وعدت لندن بها بعدما رفعت بروكسل عنها الوصاية. ويُقارِنُ بعض التقييمات أزمة اليوم بما كانت عليه أزمة البلاد في ستينات القرن الماضي وسبعيناته.

كانت تلك الأزمات البعيدة هي التي دفعت لندن إلى الإلحاح في توسّل عضوية الاتحاد الأوروبي التي كان يواجهها فيتو فرنسا بزعامة الجنرال شارل ديغول. ولم تخرج بريطانيا من أزمتها إلّا بعدما حظيت بتلك العضوية وراكمت نموًّا وتطورًا بسببها. والمفارقة الخبيثة أن هذه الأزمات نفسها تطلّ، على نحو موجع هذه الأيام، كنتيجة، تكاد تكون منطقية عقابية، لارتكاب فعل معصية وممارسة ذلك الحرد وتلك القطيعة ومغادرة الحاضنة الأوروبية.

ومع ذلك، فإن منابر السياسة لا تزال بعيدة مما تبثّه مؤسسات الأنتلجنسيا وما يتحرّك استثنائيًا في الشارع. وإذا ما كانت للورم أعراضٌ صارت نافرة، فإن توسّع سلسلة الإضرابات وخروج التظاهرات الشعبية التي وُصِفَت بالتاريخية يبث أعراضًا مُحذّرة من صدامٍ مجتمعي خطير.

وجديرٌ هنا التذكير بأن الحراكات الاجتماعية في فرنسا مثلًا هي روتينية تقليدية، وجُزءٌ من الثقافتين السياسية والاجتماعية هناك. في المقابل، فإن الحراك في بريطانيا نادرٌ ومُهادِن لا ترفده هياكل نقابية قوية (تمّ إجهاضها في عهد مارغريت ثاتشر) ولا تُسهِّله قوانين ميسّرة كتلك المعمول بها في فرنسا. وعلى هذا فإن احتجاجات بريطانيا تُعبّر عن تجاوز الأزمة سقوفًا تقود إلى تجاوز البريطانيين أنفسهم طقوسهم وعهودهم وما هو تقليدي في كينونتهم.

لم يعد مُمكنًا حشر الوحش في قمقمه. تكشف استطلاعات الرأي الأخيرة أن 58 في المئة من البريطانيين باتوا ضد البريكست، داعمين للعودة إلى الاتحاد الأوروبي (وهذه أعلى نسبة منذ استفتاء 2016). يتسلّل التحوّل داخل حزب المحافظين فيعلن جون مايجور، رئيس الحكومة المحافظ الأسبق، أن بريطانيا ارتكبت “خطأً هائلًا” حين غادرت الاتحاد الأوروبي.

يوجّه التحوّل صفعة مؤلمة إلى إيديولوجيا البريكست بنسختها المحافظة والعُمّالية، ويُجهض يمينًا قوميًّا متطرفًا لا يعرف وجودًا إلّا من خلال هذه البضاعة. يبقى أن المدافعين المحليين عن “أوروبية بريطانيا” لطالما عوَّلوا كثيرًا على تراكم العفن في اقتصاد البلاد ووصول الإشباع العقائدي إلى مرحلة التخمة والقرف. ومع ذلك لم يتوقع أحدٌ أن تتسارعَ وتيرةُ انتفاخ الورم وتحنّ البلاد سريعًا إلى حضنٍ أوروبي حنون. على هذا ليس تفصيلًا أن يفاجئ سوناك البريطانيين بتعيين ريغ هاندز المناصر لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي رئيسًا جديدًا لحزب المحافظين.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى