لندن تَستَنتِجُ بمُكابَرةٍ “لَعنَة البريكسِت”

محمّد قوّاص*

للمَرَّةِ الأولى مُنذُ الاستفتاءِ البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي في العام 2016، يُظهِرُ إعلامُ لندن تصريحاتٍ ومواقِفَ سياسية، حتى من داخل مجتمع اليمين، تُشكّكُ في صواب خيار ال”بريكست” وتعترف بتداعياته السَيِّئة على اقتصاد المملكة المتحدة. لم يَرقَ الأمر إلى حدّ تشكّل تيار يدعو إلى العودة إلى “حضن أوروبا”، لكنّ تحوّلًا بدأ يضغط باتجاه الاختيار ما بين الواقعية والمثالية.

قامت المثالية تلك على قواعد إيديولوجية، تَنهَلُ من زادِ مُحافظٍ قومي أقرب إلى التطرّف، وَجَدَ جمهورًا له حتى داخل النخبة في حزب المحافظين. لكن المثالية قامت أيضًا على متنٍ إيديولوجي يساري كافر بالرأسمالية الليبرالية المُتَّهَمة بمُصادرة روح “أوروبا” والغاية من إنشائها بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى أساسٍ عقائدي صرف، بشّر ا”لبريكستيون” بمُستَقبلٍ مُشرقٍ لبريطانيا العظمى “التي لا تغيب عنها الشمس”، ووفق مرجعياتٍ عقائدية أخرى، تكاسل “البقائيون” واليسار عن ردّ هذه “البشائر”.

في المسار التاريخي لدخول بريطانيا إلى “أوروبا” أكوامٌ كثيرة من الانتهازية. وفي السعي إلى الخروج من هذا النادي تدافعت أكوامٌ أخرى. كانت البلاد تُعاني أوائل ستينات القرن الماضي وهنًا اقتصاديًا بدا بنيويًا فَرَضَ طرقَ أبواب “أوروبا”. وضع الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول فيتو فرنسيًا ضد عضوية دولة لطالما كان يعتبرها جزيرة أميركية في قلب القارة. سعت لندن إلى العضوية مرتين (1963 و1967) ولم يفلح سعيها إلّا في المرة الثالثة (1973)، وكان حينها ديغول غادرَ رئاسة بلاده (1969) وأعلن الزهد بالسياسة.

نهلت بريطانيا النمو والتطوّر والثراء والتقدّم، مُستفيدةً مما تُقدِّمه “أوروبا” في بند “الحقوق” وما سمحت به من استثناءات للندن في بند “الواجبات”. بقيت بريطانيا خارج منطقة اليورو وخارج منطقة الشنغن، واستُثنيت من التزاماتٍ أخرى تفهّمًا لخصوصية البلد وضغوط السياسة في داخله. بقيت بريطانيا خلال عقودها الأوروبية (47 عامًا) تُعبِّرُ عن ضيقٍ من قَدَرِها الأوروبي، ويفصح كثير من ساستها عن توقهم إلى “الاستقلال”.

خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إثر استفتاء أنتج ميلًا طفيفًا بهذا الاتجاه (52%). كشف الحدث عن انقسامٍ مُجتَمَعي وسياسي داخلي، لكن الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة لم تُبدِ أيَّ نزوعٍ نحو العودة عن “حُكمِ الصناديق”، بل أظهرت ثقة ببريطانيا “عظمى” ولو بعد حين.

وإذا ما كانت انتهازيةُ العَوزِ أجبرت لندن على الالتحاق بالمشروع الأوروبي الكبير، فإن انتهازيةَ التُخمة عظّمت من شأن خطاب بات يعتبر “أوروبا” عبئًا وجب التخلص منه وخطأً وجب تصحيحه. غير أن الاقتصادَ الذي روَّجَ للبريكست هو نفسه الذي يدفع هذه الأيام باتجاه التعبير عن “ندم” مكتوم خافت على هذا الطلاق.

يُطلِقُ مجتمع الأعمال التحذيرات بشأن ارتباك علاقة “بزنس” بريطانيا بسوق الاتحاد الأوروبي، وهو الأهم بالنسبة إلى اقتصادها. تشكو شركات البلد ومؤسساته الإنتاجية عجزًا في اليد العاملة، وهو أمرٌ يستطيع أن يستنتجه أيُّ سائح يرتاد المطاعم والمقاهي والحانات البريطانية. وفيما تطالب منابر الأعمال بتشريعاتٍ تخفف من قيود استيراد العمالة الأجنبية، فإن رياح الإيديولوجيا لا تزال تقف ندًّا أمام أيّ مرونة يُفهَمُ منها تراجعًا عن مكسب البريكست ومقدّساته.

لم يصل ضجيج “الندم” إلى داخل حكومة ريشي سوناك. ولم يظهر لدى المعارضة، لا سيما العمالية، أيّ عزمٍ على رفع بيرق “أوروبا” من جديد. الأمر لا يزال حسّاسًا مُحرِجًا يحمل كثيرًا من المخاطرة، فإذا ما صوّتت الطبقة الوسطى والمدن المختلطة والمتقدمة ثقافيًا لمصلحة البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، فإن كتل الريف الناخبة كما التجمعات العمالية صوّتت لمصلحة البريكست، سواء انتمت إلى اليمين أم إلى اليسار.

على أن بريطانيا سعت بعدما تمّ إنجاز البريكست إلى التوهّم بالقدرة على اجتراح موقع لها في العالم، يُلاقي ما يعنيه حَدَثُ الانفصال عن سلطة بروكسل. منّت لندن النّفس بعلاقات ثنائية بعواصم العالم تُغنيها عن علاقتها بأوروبا. طمحت إلى علاقات متميّزة بالولايات المتحدة وعد بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أو أخرى بالصين والهند ودول الكومنولث وبلدان الخليج العربي، تقيها أوجاع سنوات الطلاق الأولى من الأخ الأوروبي الكبير. لكن لندن تستفيق هذه الأيام على وقائع موجعة.

أخفت تداعيات الجائحة أعراض “الخطيئة” التي كان سيظهرها البريكست. روّج رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون للنجاح بتلفيق اتفاقٍ مع بروكسل قبل تفخيخه بالقبول ببروتوكول إيرلندا الشمالية. خضع ذلك الصقوري المُناصر للبريكست لبروتوكول يُجبِرُ إيرلندا الشمالية على التقيّد بقوانين أوروبا التجارية، على عكس باقي أنحاء البلاد. استطاع جونسون بيع حزبه والبرلمان اتفاقًا أتت بأحسن منه تيريزا ماي التي قاد لاحقًا انقلابًا عليها. وحين لوّح جونسون بالانقلاب على البروتوكول، ضرب الرئيس الأميركي جو بايدن الإيرلندي الأصول على الطاولة، مُحذّرًا من المسّ بما يمكن أن ينال من “اتفاق الجمعة العظيمة” (1998) الذي أنهى الحرب الأهلية هناك.

حتى حين أراد جونسون التمتّع بعلاقاتٍ متقدمة مع الصين في مسألة توفير خدمات شبكة الجيل الخامس (G5)، توجّه حليفه ترامب من واشنطن إلى لندن ومارس أقصى الضغوط الأميركية ضد شبكة الجيل الخامس الصينية التي تعتبرها واشنطن خطرًا يخترق أمن المنظومة الغربية برمّتها. اضطر جونسون إلى حظر شركة هواوي الصينية، واضطرّت لندن لاحقًا، لا سيما في عهد بايدن، إلى تعديل عقائدها الأمنية الاستراتيجية التي كانت تًعتَبِرُ روسيا فقط العدو الأول لبريطانيا، وإضافة الصين خصمًا استراتيجيًا يظهر في نصوص السياسة الخارجية التي كشف عنها سوناك الإثنين.

وفق خطابه في السياسة الخارجية، يقود سوناك البلد نحو النزول المُتدرّج عن أشجار الإيديولوجيا. لا طموح لبريطانيا في تبوُّؤ موقعٍ مُتميّزٍ عن بقية حلفاء البلد الغربيين. غَمَزَ من قناة الخطب النارية التي اعتمدها جونسون في مخاطبة فرنسا قبل سنوات وألمانيا قبل أيام، وتلك التي انتهجتها ليز تراس حين تساءلت عما إذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صديقًا أو خصمًا لبلادها.

يحمُلُ سوناك مُغِلّفَي الواقعية والبراغماتية للدفاع عن مصالح بلده. يتمسّك بموقف لندن المُعادي لروسيا الداعم لأوكرانيا. يرفع من مستوى الخطاب ضد الصين ليقترب تمامًا مما يصدر عن واشنطن ومؤسّساتها الاستراتيجية في هذا المضمار. يَعِدُ بتصويب الجهود صوب منطقة الإندو-باسيفيك تمامًا كما بات الحلف الأطلسي برمّته ينزع إليه منذ قمته الأخيرة.

سيحتاج المراقب إلى تأمّل سلسلة تحوّلات سياسية إيديولوجية ستظهر تباعًا، تفرضها ضرورات السوق أولًا ومتطلبات ما تحتاجه الانتخابات المقبلة. يعي سوناك أن لحظة تاريخية نادرة أتت به زعيمًا غير مسيحي وغير أبيض لبريطانيا. يعرف أن استطلاعات الرأي الحالية تتوقّع هزيمة حزبه في الانتخابات المقبلة. يُدرِكُ أن خطاب “الندم” من ذلك البريكست المشؤوم قد يتصاعد ويصبح مادة علنية للجدل حتى داخل حزبه، حزب المحافظين، الذي ما برح يكشف عن انقسامٍ في ظلِّ حروب “قبائله”.

ما شهدته بريطانيا من مخاضٍ سياسي سببه البريكست. وما تعرّض له حزب المحافظين من أزمات داخلية أدّت إلى إطاحة زعمائه منذ ديفيد كاميرون إلى ليزا تراس سببه البريكست. وهناك في الخلفيات العنصرية من يرى في لعنة بريكست سببًا في تبوُّؤ “هذا الهندي” زعامة حزب المحافظين وحكومة البلاد.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى