في هذا البيت وُلِدَ “نبيُّ” جبران (1 من 2)

ماري غارلِند في رسم وصورة

هنري زغيب*

في الذاكرة الجماعية أَنَّ جبران وضع الـمُسَوَّدات الأُولى لكتابه الخالد “النبي” (منشورات كنوف – نيويورك 1923) بين محترفه النيويوركي (المبنى 51 – الشارع العاشر غربًا) وبيتِه في بوسطن (76 شارع تايلر) حين كان يتسنَّى له أَن يزور شقيقته مريانا مُمضيًا عندها وقتًا يُفْرحُ اشتياقها إِياه.

لكن الأَمر مختلف تمامًا. فما الذي حصل؟

في هذا الجزء الأَول من المقال أَشرح الإِطار العامّ، وفي الجزء الثاني أُفصِّلُ ما حصَل.

عطلة في الخليج

كنتُ في نيويورك حين قرأْتُ كتاب “خليل جبران أَبعد من الحدود”  للنحات خليل جبران وزوجته جين (منشورات إِنتِرلِنْك – نورثامبتون ماساشوستس 2017) وفيه عن ثلاثة أَسابيع هنيئة أَمضاها جبران مُلَبِّيًا دعوة السيدة ماري تودور غارلِنْد إِلى مزرعتها في خليج بازارد (على المحيط الأَطلسي، عند طرف ولاية ماساشوستس، في بقعة صغيرة هادئة تستدير نحو 12 كلم طولًا و8 كلم عرضًا).

بقي الأَمر نصًا في كتاب، حتى نجح الباحث الإِيطالي الجبراني فرنتشسكو ميديتشي Francesco Medici في الحصول على صُوَر للمكان ووثائق، فنشَر بحثه تعاوُنًا مع الباحث الأُسترالي اللبناني الأَصل غْلِن كالِم حبيب Glen Kalem-Habib الذي أَصدَرَهُ في موقعه الجبراني الشهير The Kahlil Gibran collective.

جبران مستلقيًا في حقل قرب المزرعة

مزرعة تضُجُّ بالحياة

من هذا البحث الجديد أَقتطف لقراء “أَسواق العرب” أَبرز ما جاء فيه، وأُضيف إِليه فقرات من بحثٍ آخَر قمتُ به لإِكمال الصورة واكتمال الموضوع.

يُخَيَّلُ للبعض من قرَّاء جبران أَنه كي يضع “النبي” انسحبَ إِلى ناحية نائية من أَرض نائية في بلاد نائية، وأَن شخصيات “الميترا” و”المصطفى” و”أَهالي أُورفليس” وسواها وُلِدَت في صومعة عالية على قمة عالية من جبل عالٍ. لكن الحقيقة أَن الكتاب وُلِد وسْط بيئة صاخبة تضجُّ بالحياة والمرح في ناحية عند طرف ولاية ماساشوستس الأَميركية.

فكيف كان ذلك؟

ذات يوم من ربيع 1918 وصلَت إِلى محترف جبران في نيويورك رسالة من الكاتبة والشاعرة البوسطُنية ماري غارلِند تدعوه فيها إِلى مزرعتها وتمضية وقت فيها للتأْليف والاستجمام. وحين قَبِلَ جبران الدعوة، لم يكن يحدُسُ أَنْ فيها سيجد الجو الملائم بهدوئه، والمناسب بِجَوِّه، والمؤَاتي بصفائه، لوضع الصفحات الأُولى من “كتاب العُمر” الذي ظل ردحًا من السنوات يُخبر عنه ماري هاسكل لكنه لن يكُن بدأَ به بعد.

من هي تلك السيدة؟

“المسز ماري”

إِنها Mary Tudor Garland ماري تودور غارلند (1870-1945). من سيدات المجتمع الشهيرات في بوسطن، ناشطة في شؤُون المرأَة، مُحبَّةٌ عالَم الأَدب والأُدباء، مزواجة مرارًا، انتَهت صريعةً برصاصة عشيقٍ أَرداها بدافع الغيرة، وكانت في الخامسة والسبعين.

حين لبَّى جبران دعوتها كانت أَرملة قبل عشر سنوات، ولها ستة أَولاد. مع مطلع القرن العشرين، أَوصت على بناء عدد من الشقق الصغيرة المركَّبة خشبيًّا في أَنحاء مختلفة من مزرعتها، وغايتُها دعوة أُدباء وشعراء وفنانين يأْتون ليكتبوا ويرسموا ويؤَلِّفوا في هدأَة المزرعة. وهكذا كان، فراح يلبي دعوتها إِلى تلك الخلْوة الهادئة عددٌ من الكُتّاب، بينهم الكاتبة والرسامة روز أُونيل (1874-1944)، ورسامة الوجوه سيسيليا بو (1855-1942)، وصديق جبران الشاعر ويتر باينر (1881-1968)، والشاعر والروائي هانيل لونغ (1888-1956) وسواهم.

مسوَّدة أُولى قبل الكتابة الأُولى

الفرح بالمكان

ذاك هو المحيط الأَدبي الذي كان جبران يتهيَّأُ للذهاب إِليه، حتى إذا وصله في نيسان/أَبريل 1918، أَسرع يكتُب إِلى راعيته ماري هاسكل (1873-1964) عن المكان وسيِّدته شارحًا لها في رسالته (10 نيسان/أَبريل 1918): “سأُغادر نيويورك بعد غدٍ الجمعة 12 نيسان/أَبريل، لأَذهب إِلى خليج بازارد لدى السيدة غارلِند. أَظنُّني كلَّمْتُكِ عنها قليلًا حين كنتِ هنا في نيويورك. إِنها سيدة رائعة وصديقة نقية. سأَكون لديها في بيت مستقل لي وحدي بكل ما فيه من وسائل الراحة. وإِذا تسنَّى لي أَن أَكتب هناك وأَرتاح، سأُمضي حتمًا بضعة أَيام تطْلُب السيدة غارلِند أَن تطول أَكثر فأُمدِّدَ إِقامتي قدْرَما أَستطيع. لكنني لن أَبقى طويلًا في تلك الضيافة الكريمة. ولن أَعود من هناك إِلى نيويورك بل سأَجيْءُ إِلى بوسطن فأَراكِ وأَرى شقيقتي (…). لم أَستطع في الأَيام الماضية أَن أَعمل كثيرًا في محترفي هنا، لكنَّ في بالي أَفكارًا كثيرةً أَرجو أَن أُنفِّذها في هذه الخلْوة هناك، بينها الفكرة الكُبرى التي تشغل عقلي وفكري وقلبي، وأَطمح إِلى أَن أُعطيها شكلها الأَول قبل أَن نلتقي معًا. سوف أَكتبها بالإِنكليزية، وكيف يمكن أَن أَكتب أَيَّ سطر بالإِنكليزية من دون مساعدتِكِ؟”.

بُذُور الولادة

واضحٌ من هذه العبارة الأَخيرة أَنه يفكِّر في البدء بـكتابة “النبي” الذي كان قبلًا، منذ 1912، أَلمح عنه جبران إِليها بصيغة “فكرة كبيرة” يهيِّئُ لها عنوان “الكومُنْوِلْث”.

وهو فعلًا، إِبان إِقامته 24 يومًا في تلك المزرعة الهادئة الهانئة، تمكَّن من نسْج معظم فصولها في كتابة أُولى.

ما الذي حصل؟ وكيف وُلِد “النبي” في تلك الخلْوة؟

هذا ما سأُفصِّلُهُ في الجزء المقبل من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى