بايدن والمنطقة: خطابان قد لا يلتقيان

محمد قوّاص*

ظهرت في مواقف وتصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، منذ بداية رحلته إلى الشرق الأوسط، هوّةٌ واضحة بين أولويات واشنطن والمنطقة. بدا أن الإدارة في واشنطن تستخدم خطابًا مُتقادِمًا في توجّهها للعالم العربي، وأنها لم تغادر أدوات بالية باتت خارج الخدمة لا تجد لها سوقًا لدى عواصمه.

ظهر ذلك واضحًا في ما صدر من مواقف قَبل وحَول وداخل “قمم جدّة”. حمل بايدن ما يشبه الوعد بأن بلاده “النادمة” على مغادرة الشرق الأوسط (وهذه مسألة أميركية) عازمة على العودة إليه لمنع فراغ تستفيد منه الصين وروسيا وإيران (وهذا شأن أميركي). أما أهل المنطقة فلا يجدون في تلك المواقف ما يستجيب لأولوياتهم.

ليس هناك فراغٌ في المنطقة ولا أحد يطلب أن تأتي الولايات المتحدة لتملأ ذلك الفراغ. لا بل إن سياسات واشنطن -وليس رحيلها المزعوم- هو ما يُغضِب المنطقة، سواء في تبنّيها لـ”ربيعٍ” كاد يقود إلى كارثة، أو في تدخلها في شؤون بلدان المنطقة لمسوغات أميركية بيتية، أو في انتهاجها خيارات مع إيران فاقمت من أخطارها وأغرتها بتوسيع نفوذها داخل بلدان الإقليم.

الوجود الروسي والصيني في الشرق الأوسط هو مشكلة أميركية. الأمر لا يُشكّلُ أي مشكلة لعواصم المنطقة التي ذهبت عن سابق تصور وتصميم لتنويع علاقاتها الدولية ومدّ جسور التعامل والتعاون مع بكين وموسكو ونيودلهي وسول وغيرها. وإذا ما كان بايدن يُخطط لـ”عودة” هدفها “طرد” النفوذ الصيني والروسي من المنطقة، فسيصعب أن يجد له في هذا السعي شركاء وحلفاء في هذه المنطقة.

أجمع زعماء الدول التي شاركت في “قمم جدة” على تمسّك العرب بحلّ القضية الفلسطينية. دعوا إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وفق القرارات الدولية والمبادرة العربية لعام 2002. لم يكن ذلك المطلب خطابًا شعبويا للاستهلاك الإعلامي، بل وُضِعَ في صدارة أي مدخل لحلّ أزمات المنطقة والعالم، لا سيما السلم والازدهار ومكافحة الإرهاب وضمان التعاون الصحيح مع المجموعة الدولية.

جيلٌ جديد من القادة، وفق ما أشار رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي، يوجّه المنطقة. يتكلّمون لغةً حديثة، ويتعاطون مع قضايا بلادهم بمفردات العصر وأدواته. تُريدُ العواصم العربية قيام دولة وطنية حديثة قوية تقطع مع الطائفية والمذهبية والعشائرية التي تطل برأسها وتجد لها في العواصم الكبرى “مُتفَهِّمين” وداعمين. تريد العواصم القطع الكامل مع ظواهر الميليشيات، سواء تلك الزاعمة للوطنية ومدعية “المقاومة”، أو تلك المُعتَرَف بها إرهابية أو مرتزقة والتي تجد لها في عواصم العالم التمويل والتسهيل وغضّ الطرف.

جيلٌ جديد من القادة هم “أدرى بشعاب مكة” يعرفون بلدانهم، ملمّون بحاجاتها، مُدركون لأولوِيّاتها، ولا يحتاجون إلى مَن يزعم ملء فراغ لا يجدونه. صحيحٌ أن العواصم العربية تعاملت مع أخطار “داعش” بدعم المجتمع الدولي وبالتحالف مع قواه العسكرية، لكن هذه العواصم تصدّت بحزمٍ وحسمٍ لحالة الفوضى التي تمّ التنظير لوجاهتها والوعد بها “خلاقة” من واشنطن نفسها، وواجهت وحدها أشكال الإرهاب التي استفاد بعض قادتها من تسهيلات وحماية من عواصم قريبة وبعيدة.

لا بدّ أن الرئيس بايدن قد لاحظ في جولته الشرق أوسطية أن المنطقة تغيّرت جدًا. سمع في بيت لحم من الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلامًا عاد وسمعه بإجماع تام من قبل القادة العرب في جدة. سمع أن المنطقة، شاءت واشنطن أم أبت، لن تسمح بالعبث والفوضى مهما هذّبت الأدبيات السياسة الغربية من أوصافهما. سمع أن الأمن والاستقرار أولوية ولم يعد مسموحًا أن تتعامل واشنطن مع الأمر بصفته ترفًا يخضع لمزاج تداول السلطة في البيت الأبيض.

أدرك بايدن أنه لن يكون باراك أوباما. تغيّرَ الزمن وتغيّرت الظروف. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تفرض اتفاقًا مع إيران بصفته “أمر عمليات” وإملاءً تأخذ المنطقة علما به وتتموضع وفقه. استنتج ربما أنه وصل مُتَأخّرًا، وأن “استشارة” أهل المنطقة التي كانت مطلوبة من عواصم الإقليم بشأن الملف الإيراني لم تعد كافية. بات على واشنطن أن لا تذهب مذهبًا لا يقبله أهل المنطقة. هذه حقيقة أدركتها، للمفارقة، طهران أيضًا وتسعى إلى مُداراة شؤونها الإقليمية بجهودٍ في ورش الحوار.

سيحمل بايدن إلى بلاده خريطة طريق جديدة لإعادة رسم سوق الطاقة في العالم. باتت الرياض (وشركاؤها) تفرض مقاربة أخرى لحماية استقرار إمدادات الطاقة في العالم. المقاربة لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول المُنتِجة للطاقة الإحفورية فقط، بل تدفع نحو شراكة دولية كاملة في بناء مرحلة انتقالية، لا تخضع للايديولوجيات البيئوية الواهمة، من أجل الاستثمار في قطاع الطاقة لتحقيق ضمان استقرار العرض، والانتقال بنضج واتزان باتجاه أية طاقة نظيفة بديلة.

قد يكون من المُبكر استشراف تداعيات رحلة بايدن على خطط البيت الأبيض وتحوّلاته المقبلة. الرئيس الديموقراطي يتأمل استحقاق انتخابات التجديد النصفي في الخريف ويراقب عن كثب تتالي تحديات الاستحقاق الرئاسي المقبل. هو مُضطَرٌّ إلى إحداث تحوّلٍ في عقائد بلاده الاستراتيجية لتحقيق هذه “العودة” إلى الشرق الأوسط. عودة يبشّر الناخبين بها، لا يُهلّل أهل المنطقة لها، ولا يجدون في أهدافها لمَلءِ “الفراغ” ما يهمهم أو يُلاقي طموحات المنطقة وتطلعاتها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى