تركيا والعالم: ماذا سيَتَغَيَّر بعد أردوغان؟

محمّد قوّاص*

لا يُمكِن الوثوق باستطلاعات الرأي بشأن ما تتوقّعه من نتائج للانتخابات التركية الرئاسية والتشريعية التي تجري في 14 أيار (مايو) الجاري (الدورة الثانية في 28). حتى أن حظوظ المُرَشّحين تتغيّر، صعودًا ونزولًا، وفق توقيت إجراء الاستطلاع، وأحيانًا وفق الشركة التي تجريه. ومع ذلك فحريٌّ أن نستطلعَ آفاق السياسة الخارجية التركية في حال أخرَجَت صناديق الاقتراع الرئيس رجب طيب أردوغان من قصره الرئاسي.

ليس يسيرًا على المعارضة التركية الانقلاب على ما أنجزته حكومات حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002 وفق الرؤى التي أرادها أردوغان في السياسة الخارجية لبلاده. يكفي تأمل كمّ الملفات التي انخرطت بها أنقرة خلال العقود الأخيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا وداخل ميدان الطاقة في شرق المتوسط كما العلاقة بين شرق وغرب، لاستنتاج درجة تعقّد أي إدعاء بتفكيك الإرث الأردوغاني في الخارج.

في تركيا، وبعيدًا من بيئة حكم أردوغان وحزبه وأنصاره، مَن يعتبرُ، سواء قبلنا سياسات الرئيس التركي أم كرهناها، أن البلد بات رقمًا صعبًا في العلاقات الدولية، وأنَّ كثيرًا من القرارات التي اتُّخِذَت في عهد زعيم “العدالة والتنمية” مكّنت تركيا من لعبِ أدوارٍ إقليمية ودولية، وأن مغامرة اللعب على حبال الولايات المتحدة والأطلسي من جهة وحبال روسيا والصين من جهة أخرى التقت، وربما بالمصادفة، مع هذا النزوع الحديث نحو “الخيار الثالث” الذي برز خصوصًا إثر اندلاع حرب أوكرانيا، وانتهجته دول أفريقية وشرق أوسطية ناهيك بالهند وجنوب أفريقيا وتجمعات البريكس وشنغهاي، إلخ…

قد يكونُ صحيحًا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد “يستريحان” من أردوغان المثير للجدل في خياراته المُعاندة ل”الناتو”، لا سيما تلك التي ذهبت إلى حدّ اقتناء منظومة صواريخ “أس-400” (S-400) الروسية المصنوعة أساسًا لإسقاطِ المقاتلات الأطلسية. صحيح أنه كانت للرئيس الأميركي جو بايدن مواقف مُعادية لأردوغان إلى درجة الإيحاء بدعم معارضيه للإطاحة به، لكن مواقف بايدن أفرجت عن خفّة وتسرّع (الحالة السعودية مثالًا) قد تُقدِّم من حيث لا يدري عضدًا لأردوغان أو تعايشًا مع أمره الواقع.

وقد يكون صحيحًا أن “الاتحاد الأوروبي” سيتخلّص من زعيمٍ تركي استغرق في شنّ الحملات ضد أوروبا وقودًا لشعبوية مكّنته من حكم البلاد طوال هذه الفترة. لكن الصحيح أيضًا أن ما يطرحه خصوم أردوغان يقوم أيضًا على قومية وعصبية وشوفينية قد تفتح صفحات توتر جديدة لا تنحصر بالنزاع التقليدي مع اليونان وقبرص فقط بل تنسحب على ما يرومه الأتراك الجدد من أوروبا والأوروبيين.

تعرف واشنطن أن تركيا لن تعود أطلسية بالمعنى الذي كانت عليه في عهودٍ أتاتوركية سابقة، لا سيما في مراحل الحرب الباردة المندثرة. تدرك أن ما تحقّق من علاقات حميمية مع روسيا بات استراتيجيًا لا يمكن لأي طقم سياسي جديد إدارة الظهر له.

صحيح أن المعارضة تَعِدُ بالعودة إلى برنامج المقاتلات الأميركية “أف-35” (F-35) الذي طُرِدَت منه تركيا بعد إصرار أردوغان على اقتناء منظومة ال”أس-400″، غير أنه سيكون من الصعب على أيِّ حكومة تركية جديدة إهمال الحلف مع روسيا بالتخلّي عن منظومتها الصاروخية داخل الترسانة العسكرية التركية. وعلى أيِّ حال لم يجرؤ أي موقف أو تصريح معارض على الجزم والحسم في هذا الموضوع.

لا شيء بإمكان حكم المعارضة الجديد أن يفعله في شأن العلاقة مع دول الحدود العربية. قطع أردوغان مراحل في مسألة تطبيع العلاقات مع النظام السوري ولم يعد بإمكان المعارضة اختراع ترياق أفضل مما لجأ إليه أردوغان برعاية موسكو لتصفير علاقات بلاده مع دمشق. ولن تتمكن المعارضة من ابتكار وعود في شمال سوريا تبتعد جذريًا مما هو معمول به وموعود به في شأن الوجود العسكري التركي في هذه المناطق لجهة “مكافحة الأرهاب” (الكردي المتمدد من “إرهاب” حزب العمال الكردستاني وفق الخطاب المعارض)، والعمل مع حكومة دمشق لعودة “طوعية آمنة” لأكثر من 3.5 ملايين لاجئ سوري إلى بلاده.

ينطبق الأمر نفسه على “الحالة التركية” في شمال العراق. فلا نصوص لدى المعارضة تتحدث عن سلوكٍ آخر يختلف عما هو معمول به لمجابهة “المجموعات الإرهابية” بما في ذلك قصفهم وملاحقتهم واستهدافهم، على غرار القصف الذي تعرّض له مطار السليمانية شمال العراق في 7 نيسان (أبريل) الماضي في وقتِ وجود قائد قوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي في داخله.

تتحدث المعارضة التركية عن خططٍ لسحب الآلاف من الجنود الأتراك من قطر والصومال وليبيا. لكن تلك الوعود الانتخابية قد تبقى انتخابية إذا ما استنتج الحكم الجديد مصالح استراتيجية لتركيا في استخدام الذراع العسكرية للإطلالة على عواصم ومناطق باتت، أيًا كان شكل الحكم والحاكم في أنقرة، جُزءًا بنيويًا من مصالح تركيا الاستراتيجية. فما هو مُتعارف عليه أن السياسة الخارجية في تركيا تصنعها الرئاسة والأجهزة الأمنية. فإذا ما أطلّ رئيسٌ جديد من صناديق الاقتراع، فإن للجهاز الأمني والجهات الفاعلة داخله تأثيرًا فعّالًا وربما أساسيًا في السهر على استمرار السياسة الخارجية التركية.

يتبدّى من مطالعة ما صدر عن المعارضة بشأن العلاقة مع دول الخليج خطاب مناكفة لا يتعدّى حدود الحسابات الانتخابية. فما معنى أن تَعِدَ المعارضة بمراجعة العلاقات الجديدة التي نسجها حكم أردوغان مع دول الخليج وفي مقدمتها تطبيع العلاقات الكامل مع السعودية والإمارات، ناهيك بغياب “رؤية عربية” واضحة في السياسة الخارجية التركية الموعودة. صحيح أن الأردوغانية انتهجت على إثر “الربيع” العربي سياسات شابها توتّرٌ شديد في العلاقة مع العالم العربي عمومًا، ومع مصر والسعودية والإمارات خصوصًا، وصحيح أن تركيا أفرطت في اللعب على التناقضات وانخرطت بشكل فجّ في خطوط انقسامات المنطقة، لكن أردوغان لم يترك للمعارضة شيئًا تصلحه في هذه العلاقات بعد أن نجح في ترميم كثير مما انكسر في علاقات أنقرة بالمحيط العربي.

سيكون من حقّ أحمد داود أوغلو مُنَظّر حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة الأسبق والذي أصبح معارضًا أن يتباهى باضطرار أردوغان للعودة إلى انتهاج نظريته: “تصفير المشاكل”. هو صاحب خبرة في الحكم كما زميله الذي انشق أيضًا عن الزعيم التركي علي باباجان. ومع ذلك لم يصدر عنهما كما عن كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري مرشح تحالف “الطاولة السداسية” المعارض والذي قد يصبح رئيسًا للبلاد، ما يفصح عن انقلاب حازم حاسم على الأردوغانية في السياسة الخارجية.

ستحافظ تركيا في السنوات المقبلة على علاقات مُتقدّمة مع روسيا والصين مع التمسّك بخيارها الأطلسي والدفاع عنه. ستعمل على تطوير علاقاتها العربية، مع مصر والخليج بخاصة، وستداري بالأمن والعسكر والديبلوماسية توتّراتها مع الجوارَين السوري والعراقي. ستصون مجالها التركي في آسيا الوسطى فتجد لها المكانة بين النفوذ المتمدد لروسيا والصين والغرب هناك. ولن تنسحبَ بسهولة من إطلالاتها في ليبيا والصومال والقرن الأفريقي وطبعًا لن تتخلى عن طموحاتها في القارة السمراء. لن تتساهل في دورها في سوق الطاقة الواعدة في شرق المتوسط وقد تساعدها التفاهمات المُحتَمَلة مع القاهرة على ذلك.

لن يختار الناخب التركي حاكمَهُ الجديد بناءً على سياسةٍ خارجية لا يبدو أن شيئًا سيطرأ عليها سواء غاب أردوغان أم استمر حاكمًا رُغمَ أنف منافسيه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى