اللوفر من قصر إِلى متحف (2 من 2)

معرض الصناعة الفرنسية في باحة اللوفر (1801)

هنري زغيب*

الأُسبوع الماضي، في الجزء الأَول من هذا المقال (“أسواق العرب” – الجمعة 1 نيسان/أَبريل)، سردتُ تاريخ بناء اللوفر: قلعةً أَوَّلًا، ثم حصنًا ثم صرحًا فخمًا لملوك فرنسا.

في هذا الجزء الآخَر والأَخير، أُواصل تاريخ هذا الـمَعْلَم الفرنسي العالَمي، وكيف تَحوَّل من حصن إِلى متحف.

حين تولَّى العرشَ الملكُ هنري الرابع “الكبير” (1589 – 1610) شاء أَن يوطِّد سلالة “البوربون” فضمَّ قصر “التويلري” إِلى داخل حرَم اللوفر، وأَقام صرحًا ضخمًا ذا سُورٍ طولُه نحو 500 متر على طول ضفة السين. لكن ذلك لم يدُم طويلًا لأَن قصر “التويلري” أَحرقه ثوار باريس سنة 1871، واندثرت من اللوفر أَقسامٌ أُخرى نحو سنة 1880، جرى جرفها جميعها بعد ثلاث سنوات حتى استقامت نهائيةُ شكل القصر في أَجنحته الحالية التي شهدت بعض التعديل في أَواخر القرن العشرين (1981) مع الترميم الحديث وولادة “هرَم اللوفر” (1989).

منظر عام لقصر اللوفر (1866)

مركز سلطة سياسية

عند بناء اللوفر على عهد فيليب أُوغست، لم يكن قصرًا مَلَكيًّا بل قلعة نائية عن وسط المدينة. وكان برجُها العالي عهدئذٍ رمز السلطة الملَكية، يطلُّ على المدينة من علٍ في غايتين: حماية المدينة ومراقبة المواطنين. وكانت ملتقى النبلاء أَصحاب الأَراضي حول المدينة، وكان فيها سجن يزُجُّ فيه الملك أَخصامه الرفيعي المقام. وسنة 1295، إِذ فقَد الملك فيليب الرابع (1285 – 1314) ثقته بجميع مَن حوله، قرَّر أَن يخبِّئ كنوزه في القصر، فغيَّر ملامحه بأَبنية أَفقدَته طابعَ القلعة الدفاعية، واستعمله مركزًا لتوقيع المعاهدات الثنائية التي رسَّخَت أَكثر فأَكثر سطوة السُلطة الملَكية. ثم درَجَ أَن يتجوَّل ملوك فرنسا في المدينة وأَن يستقبلوا الأَعيان، فأَمر الملك لويس التاسع “القديس” (1226 – 1270) ببناء صالة كبرى قائمة على أَعمدة عالية.

مطالع المتحف: مكتبة ضخمة

فرنسوا الأَول كان أَكثر ديناميةً وتطلُّبًا بعد، ففرض هيبته في القصر والمدينة معًا، سياسيًّا وثقافيًّا، وانفتح على أُوروبا وكان يستقبل فيه منافسيه ليبهرهم. كان مشجعًا الفنونَ والآداب، وسنة 1536 أَصدر قرارًا مَلَكيًّا منَعَ موجبه “إِخراجَ أَو بيعَ أَيِّ مخطوطة خارج فرنسا دون إِيداع المكتبة الملكية نسخة منها”. وأَكثر: يروي المؤَرخ جون كارتريه أَن الملك في ساعات فراغه كان ينظم الشعر.

مع شارل الخامس أَصبح اللوفر مكانًا سْتراتيجيًّا لسلطته، فكان أَول مَن جعله مقرَّ عرشه. طلب ترميمه من جديد كي يكون لائقًا بالعرش. وعلى عهده تم في قصر اللوفر إنشاء “مكتبة الملك”، وكانت فيها مجموعات من مجلدات  كثيرة بلغَت نحو 900 مجموعة، ومقتنيات أُخرى كان الملك يحب جمْعَها. وهكذا، قبل أَن يكون اللوفر متحفًا، كانت فيه حياة ثقافية مهمة.

وإِذا كان من شأْن هذا المكان أَن يُبرز قوة فرنسا الثقافية، فهو لم يكن هكذا في نظر الفنانين: فيما امتدحه جواشان دو بيليه  في القرن السادس عشر، سخر منه الكتَّاب في القرن السابع عشر وانتقدوا ما كان يَحدُث فيه من ندوات واحتفالات معظمها أَدبي.

القاعة التي أَمر نابوليون بإِزالة اللوحات منها

هنري الرابع: رعاية الفنون

جاء هنري الرابع، وكان يطمح أَن يعطي عن شخصه صورة الملك المثقَّف راعي الفنون والآداب، فابتنى قاعة كبرى لمجموعاته الخاصة، وسنة 1606 بدأَ يدعو إِليها الفنانين وبدأَ اللوفر يتحول إِلى واحة فنية. هكذا حوَّل صالة الاحتفالات الكبيرة الواسعة إِلى قاعة أَعمال فنية وأَدبية، على مدخلها تماثيل نساء من نحت جان جوجون سنة 1550، رمزيتُها أَنها تمثل ذوق العصر. وكان الملك يقيم في تلك القاعة احتفالات أَدبية وموسيقية. وفي هذه القاعة بالذات لعب موليير للمرة الأُولى مسرحيته “الطبيب العاشق” في 24 تشرين الأَول/أًكتوبر 1658 أَمام الملك لويس الرابع عشر. وتتالت في تلك القاعة احتفالات وعروض أَدبية وموسيقية، وأَصبحت تلك القاعة محور الحياة الثقافية.

بين 1662 و1793 فضَّل الملوك العيش في قصر فرساي، فاحتلَّت الأَكاديمياتُ قصرَ اللوفر: اتخذت أَكاديميا العلوم جناحَ الملك، وأَكاديميا الرسم القاعةَ المربعة، وسواها بقية الأَجنحة، وبقيت في القصر مؤَسسات رسمية أُخرى حتى 1989 حين غادرت آخر مؤَسسة رسمية هذا القصر وكانت وزارة المالية.

منذ 1725 انفتحت قاعات القصر للجمهور العام، وبدأَ القصر يتخذ طابع المتحف. كان أَول معرض دوري فيه للرسم والنحت نهار 18 آب/أُغسطس وتلته معارض أُخرى مع برنامج مسبق لمواعيدها.

سنة 1793 غادرت جميع الأَكاديميات أَجنحة القصر لصالح “معرض عام للفنون”، ومنذئذٍ انفتح القصر متحفًا نهائيًّا باسم “المتحف المركزي للفنون”.

نابوليون: أَخرِجوهم من هنا

في حمأَة الثورة الفرنسية، كما كتب جول رونوفييه في كتابه “تاريخ الفن إِبان الثورة” جاء في مقدمة كتاب المعرض عامئذٍ: “قد يبدو غريبًا أَن نهتم بالفنون فيما أُوروبا متحدةً تحاصر أَرضَنا واحةَ الحرية”. كان ذلك لتحوُّل القصر فترتئذٍ إِلى مكان مُوَقَّت لمعارض فنانين أَحياء أَخذت معارضهم تتتالى في القاعات والأروقة وسكَنوا في بعض غرف القصر. بعد سنوات، جاء نابوليون وأَخرجهم )1806) لاستعادة أَجنحة  المتحف كما كانت، ونقَل عنه بيار روزنبرغ في كتابه “قاموس اللوفر” صرختَه الشهيرة: “أَخرِجوا جميع هذه الأَغراض من هنا. قد يسببون حريقًا يفسد عليَّ نجاحاتي وجلال هذا المتحف”.

ومن يومها واصل هذا الجلالُ جلالَه عامًا بعد عام، وتكرَّس للفن النادر العالي والعالمي، حتى بلغ اليوم أَن يضم في قاعاته الفخمة نحو نصف مليون عمل فني، يُعرَض منها دوريًا نحو 36 أَلف كل فترة، على مساحة 73 أَلف م2، ما يجعله، بدون منازع، أَكبر متحف في العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى