الذكرى الذهبية “التعيسة” لأميركا والصين

ريتشارد هاس*

تحتفل الولايات المتحدة والصين هذا الشهر بالذكرى الذهبية لعلاقتهما الحديثة. في 21 شباط (فبراير) 1972، هبط الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنجر، من الطائرة في بكين، وبعد ذلك بوقت قصير التقيا برئيس الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ. وقد تسبّبت زيارتهما في حدوث زلزال جيوسياسي، أشار إليه نيكسون بـ “الأسبوع الذي غيَّر العالم” (21-28 شباط (فبراير) 1972).

قضى هذا التقارب التاريخي على عقدين من العداء بين جمهورية الصين الشعبية، التي كان يعرفها معظم الأميركيين آنذاك بالصين الحمراء أو الشيوعية، والولايات المتحدة. وتعود جذور العداء إلى الحرب الأهلية الصينية، حيث دعمت أميركا الجانب القومي المُعادي للشيوعية، الذي خسر واضطر إلى الفرار إلى فورموزا (تايوان) في العام 1949. وفي العام التالي، بدأ الجنود الصينيون والأميركيون الحرب وقتل بعضهم البعض في الحرب الكورية.

أدى تصاعد التوتّرات بين الصين والاتحاد السوفياتي في أواخر الستينات الفائتة إلى انفتاحٍ ديبلوماسي. نيكسون وكيسنجر، إلى جانب ماو وتشو إنلاي، رئيس الوزراء الصيني والديبلوماسي الرائد، اعتبروا الاتحاد السوفياتي خصمًا مُشتَرَكًا. سعت الصين إلى الحماية من خصمٍ خاضت معه صدامًا حدوديًا مُميتًا في العام 1969. اعتقد نيكسون وكيسنجر، في الوقت نفسه، أن اتفاقًا مع الصين سيُعطي نفوذًا للولايات المتحدة ضد السوفيات وقد يُسرّع بنهاية حرب فيتنام. لقد كانت حالة كلاسيكية لعدو عدوّي هو صديقي.

حتى مع هذا التقارب في المصالح، فإن تحقيق اختراق لم يكن سهلًا. كان على الحكومتين الاتفاق على إدارة العديد من خلافاتهما بدلًا من حلّها. الوثيقة التي تم التفاوض عليها بعناية والتي صدرت في نهاية رحلة نيكسون، “بيان شنغهاي”، أشارت إلى الاختلافات بين الأنظمة السياسية للبلدين والسياسات الخارجية.

في ما يتعلق بتايوان، وهي القضية الأكثر إثارة للجدل، أوضحت الصين موقفها بأن الحكومة الشيوعية في البر الرئيس هي الحكومة الشرعية الوحيدة في الصين وأن تايوان ما هي إلّا مقاطعة صينية. في مثالٍ للديبلوماسية الإبداعية في أفضل حالاتها، اعترفت الولايات المتحدة بالموقف الصيني، لكنها لم تؤيّده، وسلطت الضوء على اهتمامها بالتوصّل إلى تسويةٍ سلمية للنزاع.

كان العداءُ المُشتَرَك تجاه الاتحاد السوفياتي هو الصمغ الذي ربط العلاقات الصينية-الأميركية على مدى العقدين التاليين، حتى انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. لقد اعتقدت الصين وأميركا أنهما وجدا سببًا منطقيًا جديدًا لعلاقتهما في العلاقات الاقتصادية المزدهرة. أراد كلُّ جانب الوصول إلى سوق الطرف الآخر. أراد الصينيون أيضًا الوصول إلى رأس المال والمعرفة الأميركيين. وقد نمت التجارة الثنائية بشكلٍ كبير، من حوالي 20 مليار دولار في العام 1990 إلى 120 مليار دولار بعد عقد من الزمن.

تسارعت التجارة الثنائية أكثر مع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001، وهو الأمر الذي دعمته الولايات المتحدة على أمل أن يُشجّع ذلك على ظهور صين أكثر ليبراليةً وتوجُّهًا نحو اقتصاد السوق. لفترة من الوقت، بدا هذا وكأنه رهانٌ معقول، وإن كان طويل الأمد. ولكن على مدار العقد الفائت، في عهد الرئيس شي جين بينغ، نما دورُ الحكومة في الاقتصاد الصيني، وزاد الدعم والإعانات، واستمرت سرقة الملكية الفكرية. ونمت العلاقات الاقتصادية من جانبٍ واحد على نحو متزايد، مع استمرار العجز التجاري الثنائي للولايات المتحدة مع الصين بمئات المليارات من الدولارات.

وبالمثل، ثبت عدم جدوى الآمال في أن يؤدي الارتباط الاقتصادي إلى التحرير السياسي. في عهد شي، أصبحت الصين أكثر قمعية من أيِّ وقتٍ مضى منذ عهد ماو. لقد سحقت الحكومة المركزية الديموقراطية في هونغ كونغ، وفرضت ضوابط صارمة على الإنترنت، وأجبرت حوالي مليون من المسلمين “الأويغور” على الالتحاق بمعسكرات إعادة التعليم في محاولة لمحو هويتهم الدينية والثقافية.

بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الصين أكثر حزمًا في الخارج. لقد عسكرت بحر الصين الجنوبي، واستخدمت القوّة العسكرية ضد الهند، وأرسلت بشكلٍ مُتكرّر طائراتها وجيشها لتهديد تايوان واليابان. نتيجةً لذلك، يُفترَضُ على نطاقٍ واسع أن حربًا باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين إما حتمية أو جارية فعليًّا. حتى أن بعض المراقبين يجادل بأن مجهود دمج الصين في نظام عالمي تقوده أميركا كان مجرد خيالٍ غير حكيم، مناورة محكوم عليها بالفشل أدت إلى تسريع ظهور منافسٍ وقوّة عُظمى.

وما يزيد الطين بلّة حقيقة هو أن ما بدأ قبل 50 عامًا كتعاونٍ صيني-أميركي ضد الاتحاد السوفياتي قد تحوّل راهنًا إلى تعاونٍ صيني-روسي ضد الولايات المتحدة. في بيانٍ مُشتَرَك صدر أخيرًا، قدّمت روسيا دعمها لموقف الصين في ما يتعلق بأصل كوفيد-19، وكذلك موقفها من تايوان. وردت الصين الجميل من خلال معارضة المزيد من توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتأييد سياسة روسيا تجاه أوكرانيا، حيث فشلت هنا في إعادة التأكيد على مبدإِ سياستها الخارجية الراسخ منذ فترة طويلة والمتمثّل في عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

الاتجاه المتدهور في العلاقات الصينية-الأميركية يُشكّل خطورة على العالم. إن التنافس الجيوسياسي المتزايد بين واشنطن وبكين لا يمكن أن يؤدي فقط إلى صراع ولكن أيضًا يهدد بمنع تعاونهما في مواجهة التحديات العالمية التي تتراوح من تغيّر المناخ والأمراض المعدية إلى التهديدات الإلكترونية والانتشار النووي.

قبل نصف قرن، ردّت الولايات المتحدة على الانقسام الصيني-السوفياتي بسياسة خارجية كانت مُبدِعة وخلّاقة في التصميم والتنفيذ. لقد ساعد انقلاب نيكسون الديبلوماسي في ضمان بقاء الحرب الباردة باردة وانتهت بشروطٍ مواتية للغرب.

أفضل طريقة للاحتفال بالذكرى الخمسين للانفتاح على الصين ليست بالشمبانيا ولكن من خلال صياغة نهجٍ مُبدع وخلّاق بالقدر نفسه للمساعدة على إحياء وإنعاش العلاقات. وهذا من شأنه أن يعترف مرة أخرى بالاختلافات بين الأنظمة السياسية والاجتماعية للبلدين، ويواصل تحسين الخلاف بينهما بشأن تايوان، ويحافظ على الروابط الاقتصادية بخلاف تلك التي تنطوي على تقنيات حساسة، ويعزز التعاون في القضايا الإقليمية مثل أفغانستان وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى مواجهة التحديات العالمية معًا.

ولا يقلّ أهمية أن تعالج الولايات المتحدة انقساماتها الداخلية، وتوسع تعاونها مع الحلفاء الأوروبيين والآسيويين من أجل ردع العدوان الصيني، والانضمام إلى الاتفاقات التجارية الإقليمية. من الضروري إجراء مناقشات منتظمة رفيعة المستوى مع القادة الصينيين. لا ينبغي أن يكون الهدف هو تحويل الصين وتغييرها، وهو شيءٌ يتجاوز قدرتنا، ولكن التأثير في سلوكها. الديبلوماسية هي أداةٌ للأمن القومي يجب استخدامها وعدم الإفراط في استخدام الأدوات الأخرى بما فيها العسكر.

  • ريتشارد هاس هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية في أميركا. كان سابقًا مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية ومستشارًا مُقرَّبًا لوزير الخارجية كولن باول. يمكن متابعته عبر تويتر على: @RichardHaass
  • هذا المقال كُتِبَ بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى