غرق أسعار الغاز في آسيا يُغرِق أحلام بوتين ويطيح طموحات أوستراليا

يبدو أن إنخفاض أسعار الغاز الطبيعي في أسواق آسيا يمثّل نعمة بالنسبة إلى بعض البلدان، لكنه في الوقت عينه يشكِّل أيضاً صداعاً واسع النطاق من فلاديفوستوك في روسيا إلى فانكوفر في كندا.

مشاريع الطاقة في أميركا: إلى أي حد سيؤثر فيها إنخفاض الأسعار؟
مشاريع الطاقة في أميركا: إلى أي حد سيؤثر فيها إنخفاض الأسعار؟

بكين – عبد السلام فريد

يقود غرق أسعار النفط إلى تغيير كبير آخر في أسواق الطاقة العالمية يتمثّل في إنهيار أسعار الغاز الطبيعي المسال في آسيا. وهذا الأمر يَعِد بتداعيات كبيرة بالنسبة إلى المنتجين والمستهلكين على حد سواء، كما يمكن أن تكون له تداعيات وآثار مترتبة في خطط روسيا لتحويل أكثر أعمالها في مجال الطاقة إلى الشرق الأقصى.
على مدى سنوات، كانت الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية من أكبر مستوردي الناقلات المحمَّلة بالغاز الطبيعي المسال، ونتيجة لذلك، فإن المنطقة قد دفعت دائماً أسعاراً مرتفعة أكثر من جميع المناطق الأخرى في العالم. إن ما يُسمَّى ب”المكافأة الآسيوية” (العائد الإضافي) نمت بشكل كبير جداً في أوائل العام الماضي، وذلك بفضل إرتفاع أسعار النفط والطلب المتزايد بإطراد على الغاز. إن دولاً مثل اليابان دفعت خمس مرات على شراء المواد الهيدروكربونية أكثر مما دفعت الولايات المتحدة على حرق الوقود النظيف.
والآن هذه المكافأة تبخّرت والعائد الإضافي لم يعد موجوداً، مما يجعل الغاز أرخص لكبار المشترين الآسيويين – ويجعل المستقبل أكثر قتامة لكثيرين من مصدّري الغاز مثل الولايات المتحدة وأوستراليا. لقد وصل سعر تسليم الغاز الطبيعي المسال في اليابان إلى 20 دولاراً للمليون وحدة حرارية بريطانية في آذار (مارس) 2014، وهذا كان يساوي ضعفي الأسعار في أوروبا في حينه، وبعد عام واحد، تراجعت أسعار الغاز الطبيعي المسال في آسيا إلى حوالي 7 دولارات – أقل قليلاً مما يدفع الأوروبيون الآن.
ويرجع جزء من هذا الهبوط إلى أسعار النفط المتدنّية، التي إنخفضت نحو 50 في المئة منذ الصيف الماضي. وترتبط غالبية عقود الغاز في آسيا بأسعار النفط، لذا عندما يصبح النفط الخام أكثر تكلفة، يصبح سعر الغاز كذلك- والعكس بالعكس.
ويرجع جزء من الإنخفاض الحاد أيضاً إلى النوع عينه من أساسيات العرض والطلب التي عكّرت أسواق النفط. إن الإقتصادات الآسيوية مثل اليابان والصين تتباطأ، الأمر الذي يؤدي إلى إنخفاض الطلب على الغاز بنسبة هبوط أكثر من نسبة ذلك المعروض في السوق.
ونتيجة لذلك، فإن الناقلات المحمّلة بالغاز الطبيعي المُسال تتراكم وتتجمع حول المراكز التجارية في جميع أنحاء آسيا، مُخزِّنة حمولات لم تعد تساوي سوى ثلث قيمتها في العام الماضي. كما أن ناقلات أخرى تتباطأ في سيرها في طريقها إلى المحيط الهادئ، على أمل أن تتحسّن السوق في الوقت الذي تصل فيه إلى الشرق الأقصى. يبدو أن عُشرَ أسطول ناقلات الغاز الطبيعي المسال في العالم ينتظر حالياً في حالة ركود.
“بمجرد حصول فائض، فإن الأمر يتحوَّل بسرعة كبيرة إلى كارثة في هذه الصناعة”، قال جيمس جنسن، مؤسس وكالة إستشارات الغاز الطبيعي “جنسن وشركاه”.
لقد صار هذا الوضع مشابهاً للوضع في الولايات المتحدة وكندا حيث يحاول كلّ من البلدين تحويل طفرة الطاقة المحلية إلى طفرة في التصدير، وكلاهما يعتمد بشكل كبير على السوق الآسيوية. ولكن التراجع في الطلب على الغاز مع أسعار منخفضة كثيراً، يجعلان إحتمال بناء محطات إضافية بمليارات عدة من الدولارات خياراً صعباً. إن الأشياء لا تبدو جيدة على الإطلاق فقد إنقلبت رأساً على عقب، حيث صار المحللون يفركون بالفعل أيديهم ويتوقعون حدوث أمر مريع يحطّم آمال الغاز الطبيعي المسال في أوستراليا.
بطبيعة الحال، إذا كان هناك أي عزاء لواشنطن وأوتاوا، فإن التحوّل المفاجئ لسوق الغاز العالمي قد ولّد أيضاً صداعاً بالنسبة إلى روسيا. لقد كانت لدى موسكو خطط كبيرة للقفز إلى سوق الغاز الطبيعي المسال بكلا قدميها، وكذلك توسيع تجارة الطاقة البرية مع الصين. إن إنهيار الأسعار يهدّد فعلياً كل هذه الطموحات.
ومع ذلك، فإن الكارثة هي أخبار جيدة، على الأقل في المدى القصير، لمستوردي الغاز الطبيعي. وبفضل فواتير أرخص لواردات الغاز الطبيعي المسال، فإن اليابان خفّضت عجزها التجاري في كانون الثاني (يناير) الفائت بنسبة 60 في المئة مقارنة مع العام الفائت. وكانت اليابان عرفت فائضاً تجارياً على مدى ثلاثة عقود قبل وقوع حادث فوكوشيما النووي في العام 2011 الذي أجبر البلاد على شراء كميات هائلة من الغاز الطبيعي المسال المُكلف. الآن مع حصولها على الغاز بأسعار أرخص (ويشتري البلد أقل) فإن دفاتر المحاسبة اليابانية تقترب إلى الأسود.
من ناحية أخرى، يمكن أن يحمل الغاز الأرخص أيضاً أخباراً جيدة بالنسبة إلى دول مثل الصين والهند، اللتين تحاولان إيجاد السبيل لإستخدام كميات أقل من الفحم في قطاعات الكهرباء للحد من تلوّث الهواء القاتل. إن الشركات الصينية العملاقة في مجال الطاقة مثل “بتروتشاينا”، و”سينوبيك”، و”المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري” كلها تبحث عن صفقات أسعار مخفضة لشحنات الغاز الطبيعي المسال للتسليم في ربيع هذا العام.
بالنسبة إلى الهند، فإن التوافر المفاجئ للغاز بأسعار معقولة نسبياً يعني أن البلاد يمكن أن تستخدم محطات الطاقة التي كانت موجودة ومتوقّفة عن العمل بسبب نقص الإمدادات. وهذا يعني أن البلاد ينبغي أن تتجنب نقص الطاقة الكبير هذا العام، على حد قول وزير الطاقة الهندي بيوش غويال.
مع ذلك، إن الغاز الطبيعي المسال الرخيص لن يستطيع ركل الفحم بالكامل بعيداً من مزيج الطاقة، لأن الصخور السوداء القذرة يمكن الحصول عليها أيضا بأسعار أرخص بفضل الركود العالمي. يجب على أسعار الغاز الطبيعي أن تغرق أبعد من ذلك لتكون قادرة على المنافسة إقتصادياً مع الفحم لتوليد الطاقة في الصين والهند. وكما لاحظت حديثاً الشركة البريطانية الإستشارية “”إينيرجي أسبيكتس”: “لو إستخدم الغاز الطبيعي المسال بالسعر السابق لتشغيل محطات توليد الكهرباء لكان الأمر مثل شرب الشمبانيا بإعتباره فاكهة تقضي على العطش، وبإستخدام الغاز الطبيعي المسال بسعر أرخص قليلاً لتوليد الطاقة فهو مثل المياه المنتظرة لإرواء العطش”.
على المنحى الآخر، مع ذلك، فإن إنهيار المكافأة والعائد الإضافي في آسيا يحمل فوائد. كانت أوروبا منذ فترة طويلة تُعتبر العميل الثاني لشحنات الغاز الطبيعي المسال، لأنها عرضت عوائد أقل لبائعي الغاز. وحتى مع ذلك، لا تزال واردات الغاز الطبيعي المسال أكثر تكلفة من الغاز الطبيعي الروسي الذي يأتي براً في خطوط الأنابيب. إن العديد من الشحنات التي قصدت أوروبا كان يُعاد ببساطة تصديرها إلى آسيا للحصول على عائدات أكبر. كل ذلك في الواقع عزّز إعتماد أوروبا على موسكو بالنسبة إلى إمدادات الطاقة.
ولكن الغاز الطبيعي المسال الأرخص في آسيا يعني أن أوروبا أصبحت سوقاً جذابة. وهذا هو نبأ عظيم لبلدان مثل ليتوانيا وبولندا، اللتين تتحولان إلى الغاز الطبيعي المسال لكسر قبضة موسكو عليهما. وبالنسبة إلى أوروبا ككل، إن توافر المزيد من الغاز الطبيعي المسال في السوق يعطي بروكسل المزيد من خيارات الطاقة.
“بعض الناقلات يعود الآن إلى أوروبا” قال جنسن. مضيفاً: “حالياً، ليس هناك أي حافز يدفع لإعادة التصدير من إسبانيا أو بلجيكا أو من أي مكان إلى آسيا، لذلك هذا يضيف ويدعم العرض في أوروبا”.
ولكن غرق الأسعار ولَّد الكثير من الخاسرين أيضاً. دولٌ مثل الولايات المتحدة وكندا وخصوصاً أوستراليا كانت تعلّق الآمال على مشاريع تصدير بمليارات الدولارات للغاز إلى السوق الآسيوية المربحة. مع إنهيار “المكافأة الآسيوية”، فإن الإقتصاد بالنسبة إلى العديد من تلك المشاريع – وبخاصة تلك المشاريع الضخمة ذات التكلفة العالية في أوستراليا – يبدو ببساطة أمراً لا يمكن الدفاع عنه. وهذا الوضع ينطبق أيضاً على خطط لتصدير الغاز، الذي ما زال في فترة التطوير، في شرق أفريقيا.
إن مشاريع تصدير الغاز في أميركا، خصوصاً تلك الموجودة على الساحل الغربي، تجد صعوبة في جذب مليارات الدولارات من التمويل اللازم لبناء محطات متطورة. ويتوقع بعض المحللين أن الغالبية العظمى من المشاريع قيد الدرس التي يبلغ عددها حوالي 30 قد لا ترى النور بسبب الإقتصاد الرديء. كما أن كآبة مماثلة هبطت على آمال كندا لتحويل ساحل المحيط الهادئ إلى مركز محور لتصدير الغاز.
والتوقعات بالنسبة إلى أوستراليا مخيّبة وأكثر قساوة. يبدو أن غرق الأسعار سوف يؤدي إلى حفرة مالية ب30 مليار دولار في توقعات تصدير الغاز في البلاد. وهذا، بدوره، يضع موازنات الدولة الأوسترالية – التي قبل عام كانت تعتمد على مطر من ثروات مبيعات الغاز – تحت ضغط متزايد.
يمكن للغاز الطبيعي المُسال الأرخص في آسيا أن يُنتِج أيضاً خاسراً لم يكن متوقّعاً: روسيا. إن إنخفاض الأسعار، والعقوبات الغربية، قد وضعتا بالفعل مشاريع الغاز الطبيعي المسال في روسيا تحت ضغط شديد. الشركات التي تقوم ببناء محطة للغاز الطبيعي المسال في شبه جزيرة “يامال” تأمل بأن يلتقط الطلب من جديد مستوى كافياً في السنوات القليلة المقبلة لجعل الإقتصاد مرضياً ويعمل بالنسبة إلى المشروع.
لكن حتى أحلام خط الأنابيب الروسي يمكن أن يكون في خطر. في العام الماضي، كجزء من خطة طويلة الأجل لتحويل المزيد من مبيعات الطاقة إلى آسيا، وقعت روسيا مذكرتي تفاهم ضخمتين في مجال الغاز الطبيعي مع الصين. العمل بالنسبة إلى الأولى، تنفذه “طاقة سيبيريا” للأنابيب، وهو جار فعلياً حتى الآن.
وقد أدّى تدفق واردات الغاز الطبيعي المسال الرخيصة إلى آسيا إلى خلق شك في جدوى المشروع الكبير الثاني، خط أنابيب “ألتاي” من غرب سيبيريا الى الصين الغربية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى عرقلة المشروع أو تأخيره حالياً في الوقت الذي تحتاج روسيا إلى الحصول على أرضية وموطىء قدم في السوق الآسيوية.
ويقول “كيون ووك بايك”، الخبير في تجارة الطاقة الروسية –الصينية: “السؤال الكبير هو ما إذا كانت الصين ستوافق على تحويل مذكرة التفاهم حول “إلتاي” إلى إتفاق ملزم خلال العام المقبل”.
الواقع أن روسيا تدرك تماماً أن رقّاص الساعة تحرك من جانب البائع إلى جانب المشتري، على الأقل خلال الفترة المتبقية من العقد. أما بالنسبة إلى العقد المقبل، إذا عاد الطلب في آسيا وأوروبا إلى الإنتعاش، يمكن أن يتغيّر الوضع — لكن البنية التحتية ينبغي بناؤها الآن للإستفادة منه في حينه.
“بالنسبة إلى روسيا، هذا هو الوقت الأفضل والأكثر أهمية لإختراق آسيا وعلى وجه الخصوص سوق الغاز الصيني، وإلّا قد تكون الفرصة ولّت لموسكو لأنه لا أحد يعلم ماذا يخبئ المستقبل”، قال بايك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى