واشنطن تَسير على حَبلٍ مَشدود في سوريا

تحاول إدارة الرئيس باراك أوباما المحافظة على علاقاتها الجيدة مع كلٍّ من تركيا وأكراد سوريا، حتى لو كان شريكاها على نحو متزايد يتحيّنان الفرص لإنقضاض كلٍّ منهما على الآخر.

حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي: القلق عاد يسكنه من الموقف الأميركي
حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي: القلق عاد يسكنه من الموقف الأميركي

واشنطن – هنري باركي*

العملية التي شنّتها تركيا في 24 آب (أغسطس) الجاري في سوريا، والتي أرسلت خلالها أنقرة دباباتها وقواتها الخاصة لدعم هجوم المتمرّدين على بلدة جرابلس التي يحتلها تنظيم “الدولة الإسلامية” تمثّل تحوّلاً كبيراً وإبتعاداً عن السياسة التركية التي كانت مُتّبعة سابقاً.
لقد كانت دولة أتاتورك منذ فترة طويلة تشعر بعدم الإرتياح، وتشارك في الكثير من النقد والثرثرة عن التحالف المتنامي بين الولايات المتحدة وحزب الإتحاد الديموقراطي الكردي السوري وميليشياته المسلّحة. لقد أكد مسؤولون أتراك، بدءاً من الرئيس رجب طيب أردوغان حتى أسفل السلطة، على أن حزب الإتحاد الديموقراطي هو عدو بالقدر عينه الذي يمثّله تنظيم “الدولة الإسلامية”، وينبغي القضاء عليه. لذا، فقد كان الأمر بمثابة مفاجأة عندما أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن العملية التركية ضد جرابلس كانت مُخططة مع واشنطن – وهي العاصمة عينها التي كان القادة الأتراك يتهمونها بلعب دور في الإنقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو) وبدعم طموحات حزب الإتحاد الديموقراطي في شمال سوريا. في هذا الهجوم، مع ذلك، فقد وفّرت الطائرات المقاتلة الاميركية الغطاء الجوي للقوات التركية المُتقدّمة مع حلفائها المتمرّدين في سوريا.
ولم تَلتزم أنقرة بإرسال قواتها البرية للسيطرة على أراضٍ سورية فحسب، ولكنها أيضاً خاطرت بزيادة تفاقم التوترات الداخلية مع الأقلية الكردية. ونظراً إلى إستمرار الخطاب الحكومي المُناهض للكرد في سوريا، فإن أكراد تركيا سوف يفهمون ويرون بأن هذه العملية هي مُوجَّهة ضد حزب الإتحاد الديموقراطي، الذي تربطهم به علاقات عاطفية وطيدة.
وتتزامن هذه العملية مع زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة لوقف التدهور الكبير في العلاقات التركية – الأميركية بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة في الشهر الفائت، التي تتهم تركيا رجل الدين التركي المنفي المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية فتح الله غولن بأنه وراؤها. وقد طالب المسؤولون الأتراك تسليم غولن، وعلى ما يبدو فإنهم لا يستوعبون بأن الأميركيين لا يستطيعون تنفيذ الأمر إلّا من خلال عملية قانونية. وفي الوقت عينه، فإن الإتهامات التي نشرتها الصحافة التركية عن تواطؤ الولايات المتحدة في المحاولة الإنقلابية، التي غذّتها الحكومة، قد أضرّت بشدة بالعلاقات الثنائية.
في ضوء شكوك تركيا العميق من دوافع أميركا في سوريا وتجاه حكومة أردوغان، فكيف يمكن للمرء أن يُفسّر التطورات التي تبدو متناقضة والتي حصلت في 24 آب (أغسطس)؟ الأهمية الإستراتيجية لجرابلس توفّر جزءاً من الجواب: تقع البلدة على الجانب السوري من الحدود التركية، وكانت نقطة عبور رئيسية لمقاتلي، ومُجنَّدي، وإمدادات تنظيم “الدولة الإسلامية”. المدينة التركية “غازي عنتاب”، التي كانت أخيراً ضحية تفجير إنتحاري “داعشي” أسفر عن مقتل 54 شخصاً على الأقل، تقع إلى الشمال، وكانت عقدة تشغيلية حرجة ل”الدولة الإسلامية” لدعم عمليات المنظمة الإرهابية ليس فقط في سوريا بل في تركيا أيضاً.
بالنسبة إلى تركيا، مع ذلك، فإن أالأهمية الحقيقية لجرابلس تكمن في حقيقة أنه من خلال السيطرة عليها، يمكن لأنقرة أن تمنع الأكراد السوريين من الحصول على منطقة متواصلة ومُتَّصلة في شمال سوريا يمكنهم الإعلان بأنها لهم. اليوم، يسيطر حزب الإتحاد الديموقراطي على منطقة تمتد من الحدود العراقية حتى شرقي جرابلس، وكانتون آخر في شمال غرب سوريا. بإحتلالهم لجرابلس، فإن الأتراك قد أحبطوا ما يرون أنه طموح حزب الإتحاد الديموقراطي لإعلان حكم ذاتي في سوريا، خلافاً لما حققه أكراد العراق.
لقد نظر اردوغان دائماً إلى المكاسب الكردية السورية بأنها تشكّل تهديداً إستراتيجياً لتركيا. وذلك لأن حزب الإتحاد الديموقراطي هو فرع من حزب العمال الكردستاني، الجماعة المتمردة الكردية التي تخوض حرباً منذ عقود ضد الدولة التركية. وعندما حاول أردوغان منع الولايات المتحدة من الدفاع عن المدينة الكردية السورية “عين عرب” (كوباني) في تشرين الأول (أكتوبر) 2014، ثار الأكراد الأتراك حيث لا يقل عن 50 شخصاً لقوا حتفهم في أعمال الشغب التي تلت ذلك.
الروابط بين الأكراد الأتراك والسوريين عميقة جداً. في حوارات أجريتها في آذار (مارس) وحزيران (يونيو) مع الأكراد الأتراك – شملت قادة سياسيين ومجتمعات منظمات غير حكومية ومواطنين عاديين – وافق الجميع بشكل موحّد على أن المسألة التي يتعلّقون بها والأكثر أهمية بالنسبة إليهم هي كردستان السورية أو “روجافا” (الإسم الكردي للمناطق الكردية في سوريا). وأجريت هذه الحوارات خلال الفترة التي شهدت ذروة القتال بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني، التي أدّت إلى عواقب وخيمة على المدنيين الكرد. وقد ثار الأكراد في تركيا مرات عديدة ويشعرون بأنهم لم يحصلوا على أي شيء جراء ذلك؛ وفي سوريا، على النقيض، فقد أثبت حزب الإتحاد الديموقراطي بأنه قوة قادرة على أرض المعركة، وحتى أنه نال إستحسان وتأييد ودعم الولايات المتحدة.
في الواقع، كان السبب الذي أدّى إلى إنهيار مفاوضات السلام بين حكومة أنقرة وحزب العمال الكردستاني التركي هو طلب أردوغان من الأخير، وإصراره عليه، بالعمل لوضع حدٍّ لنمو حزب الإتحاد الديموقراطي في سوريا. وقد رفض حزب العمال الكردستاني هذا الطلب. لقد إعتقد أردوغان – وهو محق في ذلك في نواح كثيرة – أن نجاح الأكراد السوريين في “روجافا” (كردستان السورية) من شأنه أن يُحسّن كثيراً الموقف التفاوضي للأكراد الأتراك على طاولة المفاوضات.
من جهتها تواجه واشنطن مهمة صعبة لإحتواء هذا التنافس المُستعِر. على السطح، كان تأييد الولايات المتحدة للعملية لإظهار الدعم لتركيا – ولكن في الوقت عينه كان وسيلة لإبقاء العين والرقابة على السلوك التركي. إن واشنطن لا تريد أن تشتبك القوات التركية أو حلفاؤها مع حزب الإتحاد الديموقراطي، الذي أثبت أنه القوة الفعّالة الوحيدة القادرة على هزيمة “الدولة الإسلامية” على أرض الواقع. لقد أثبت كلٌّ من الجيش العراقي والقوات المسلّحة السورية، وحتى البشمركة الكردية العراقية بأنها غير فعّالة عندما تتواجه مع وحدات قتالية متفانية تابعة ل”الدولة الإسلامية”. وفي الآونة الأخيرة، إستولى حزب الإتحاد الديموقراطي – بدعم من الضربات الجوية والقوات الخاصة الأميركية – على البلدة الإستراتيجية “منبج” التي إنتزعها من تنظيم “داعش”.
الواقع أن معركة منبج كانت دموية أكثر بكثير مما توقّع حزب الإتحاد الديموقراطي، حيث عانى خسائر كبيرة. لذا فإن لدى الولايات المتحدة إلتزاماً أخلاقياً وحاجة مستمرة لحزب الإتحاد الديموقراطي – حتى لو كانت تتفق مع تركيا على أنه ينبغي على قوات الحزب الكردي أن تظل شرق الفرات وتمتنع عن إنشاء إقليم ذاتي مجاور تحت سيطرته.
كان الإستيلاء على منبج ضرورياً، ولكنه لم يكن الهدف النهائي. إن العاصمة الفعلية ل”الدولة الاسلامية” الرقة هي الهدف المقبل، وهناك أيضاً من المتوقَّع أن تلعب ميليشيات حزب الإتحاد الديموقراطي دوراً مهماً.
من المفهوم أن حزب الإتحاد الديموقراطي والأكراد في سوريا وتركيا من المرجح أن يكونوا مُرتابين ومُفعَمين بالشك حيال هذه العملية الجديدة. الأكراد في جميع أنحاء المنطقة تسكنهم الشكوك حول نوايا واشنطن، وذلك بسبب سجل الولايات المتحدة الذي يحفل بتخلّيها عنهم على حساب تحسين العلاقات مع الدول القائمة. الآن، مرة أخرى، فإن حزب الإتحاد الديموقراطي يشعر بالقلق من أن حليفته سوف تتخلى عنه: في تصريحات له في تركيا، بدا بايدن بأنه بشكل قاطع أغلق الباب على إقامة منطقة كردية ذاتية داخل سوريا.
بالنسبة إلى حزب الإتحاد الديموقراطي، فإن الهدف من تحالفه مع أميركا ليس الإستيلاء والسيطرة على منبج أو الرقة، وهما مدينتان عربيتان واللتان سيكون من الصعب عليه السيطرة عليهما وإدارتهما حتى لو أراد. بدلاً من ذلك، فإنه يأمل في كسب الدعم الأميركي في مفاوضات ما بعد الحرب الأهلية حول مستقبل سوريا. لقد عُزل الأكراد وهُبِّطوا دائماً إلى أدنى درجات المجتمع السوري: فهم حُرِموا من الحقوق الإبتدائية وكانت جنسيتهم تُسحَب منهم لمجرد نزوة. وهم يأملون الآن بأن تتمكّن رعاية القوة العظمى العالمية الوحيدة من تغيير ذلك – وسوف يكون على المسؤولين الاميركيين أن يعملوا بجدّ لإقناعهم بأن هذا الجانب من تحالفهما لا يزال سارياً.
على أرض الواقع، كانت واشنطن حريصة على إقامة تفاهمات مع تركيا حول تصرفات حزب الإتحاد الديموقراطي، وإستطاعت إقناع الأتراك بالقبول بالدور القيادي لحزب الإتحاد الديموقراطي في تحرير منبج. إذا كان على حزب الإتحاد الديموقراطي الإنسحاب والعودة إلى الشرق من نهر الفرات، على النحو المُتَّفق عليه مع واشنطن، فإن قوات عربية ضعيفة يجب أن تحل محله في تلك المدينة، وهذا لن يحصل إلّا عندما تُدرِّب الولايات المتحدة القوات الجديدة.
في هذه الأثناء، ينبغي على واشنطن أن تلعب بعناية على هذا التوازن: السماح للأتراك بإتخاذ خطوات تلبّي إحتياجاتهم الخاصة في حين التأكد من أن الوضع لا ولن يتصاعد الى مواجهة مع حركة قوات حزب الإتحاد الديموقراطي. وإذا نجحت الولايات المتحدة في ذلك، فالمجد لإدارة أوباما.

• هنري باركي هو مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز “وودرو ويلسون”. الآراء التي أعرب عنها هنا ليست بالضرورة أنها تمثل رأي “أسواق العرب” .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى