“داعش” لم يَعُد، فهو أصلًا لم يَذهَب!

كابي طبراني*

في أَوجِ قوّتِه قبل نُصفِ عَقد، كان تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) من بين أكثر التنظيمات المُسلحة إثارةً للرعب في العالم. كانت الجماعة الوحشية سيئة السمعة استولت في وقت من الأوقات على أكثر من ثلث العراق ومناطق واسعة من سوريا وحَكَمتهما. لكن هذا الصعود الصادم والمفاجئ إلى العار أعقبه انهيارٌ حاد، وإن كان أبطأ. بحلول كانون الثاني (يناير) 2019، كان تنظيم “الدولة الإسلامية” فَقَدَ ما يقرب من جميع أراضيه في العراق وسوريا. أعلنت الولايات المتحدة هزيمته وبدأت المؤسسات الإعلامية الدولية إيلاء اهتمام مُتقطِّع لهجماته المعزولة. بحلول العام 2021، إنخفضت عمليات البحث على “غوغل”، وهو مقياسٌ للاهتمام العالمي، عن “داعش” إلى أدنى المستويات التي شُوهدَت منذ ظهور التنظيم.

ومع ذلك، فقد أثارت الأحداث الأخيرة مخاوف من أن الجماعة، المُتَدَهوِرة ولكن التي لم تُدَمَّر كُلّيًا، يمكن أن تكون على شفا صعودٍ دراماتيكي آخر. في الأسبوع الفائت، نسّق تنظيم “الدولة الإسلامية” هروبًا من سجنٍ في مدينة الحسكة السورية التي تُشرف عليه الإدارة الذاتية الكردية، وعلى الرغم من أن الهجوم لم ينجح في النهاية، إلّا أنه انتهى فقط بعد معركة استمرت أسبوعًا مع ما لا يقل عن 180 قتيلّا. يُمثّل هذا الهجوم استعراضًا للقوّة الأكثر دمويةً لتنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة منذ خسارته آخر جيبٍ له في الأراضي السورية في قرية الباغوز الواقعة جنوب الحسكة في العام 2019.

من الواضح لماذا سبّب هذا الهجوم إطلاق صفارات الإنذار: إنّهُ يُذَكِّرنا بشكلٍ مُخيف بالاستراتيجية التي استخدمتها المجموعة المُتطرّفة قبل نموّها السريع الأوّلي. في تموز (يوليو) 2012، أطلق تنظيم “داعش” – الذي كان يُعرف آنذاك باسم “دولة العراق الإسلامية”- حملة “كسر الجدران”، التي نفّذ فيها عشرين تفجيرًا منفصلاً وثماني عمليات هروب من السجون، وحرّر العديد من الجهاديين من الاعتقال. بعد عام، في تموز (يوليو) 2013، بدأت الجماعة حملات عسكرية في كلٍّ من سوريا والعراق بهدف الاستيلاء على الأراضي. بحلول بداية العام 2014، سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على الفلوجة في العراق وكذلك على الرقة في سوريا. وسرعان ما أعلن أبو بكر البغدادي، الزعيم السابق للجماعة، الأخيرة عاصمة ل”خلافة إسلامية” عالمية جديدة.

لكن الأمر الأكثر خطورة من هجوم الأسبوع الفائت نفسه هو كيف أنه يتماشى ويتلاءم مع النمط الأخير للمجموعة الذي تتبعه في نشاطها العالمي. على الرغم من أن مقاتلي “الدولة الإسلامية” الأوائل عملوا في العراق وسوريا، إلّا أن هذه المجموعة “الأساسية” عملت لاحقًا جنبًا إلى جنب مع عشرات الجماعات المُترابطة نسبيًا وما يُسمّى بالإمارات، أو الولايات، في خمس قارات على الأقل. على هذا النحو، فإن التركيز فقط على محاولة الهروب من السجن في الأسبوع الماضي – بمعزل عن الحوادث الأخرى في جميع أنحاء العالم – يرسم صورة غير كاملة للقدرة التشغيلية للمجموعة والقوّة المُحتَملة.

واصلت “الولايات” التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” العمل في جميع أنحاء العالم، من نيجيريا إلى ليبيا إلى تركيا. في الواقع، يُعتَبَرُ توسيع قدرة هذه المنظمات المتفرّعة والمُساعِدة أحد أهم التنظيمات الإستراتيجية للمجموعة – وهي حقيقة لا يتم االتطرّق إليها أو الإبلاغ عنها غالبًا. أقلُّ توثيقًا من سقوط الموصل، على سبيل المثال، كان سقوط مدينة مراوي، وهي مدينة في جزيرة مينداناو في الفلبين، في أيدي أحد فروع تنظيم “الدولة الإسلامية” في أيار (مايو) 2017. وهذا يعني أن “الدولة الإسلامية” قد حكمت أراضٍ لفترة وجيزة ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضًا على بُعد أكثر من 8,000 كلم، في جنوب شرق آسيا. وفي أواخر العام 2020، كانت ولاية غرب إفريقيا التابعة للجماعة تقوم بمحاولاتها الخاصة للاستيلاء على أراضٍ.

في الواقع، إن محاولة الهروب الأخيرة من السجن في سوريا مُقلقة إلى حدٍّ كبير بسبب الأدلّة على تنسيقها، وبخاصة على المستوى الدولي. تمامًا كما هاجم مسلحون الحسكة، بدأ مقاتلو “الدولة الإسلامية” القتال في أماكن أخرى في سوريا، بما فيها على بُعدِ أكثر من 160 كلم بالقرب من الرقة. وعبر الحدود، هاجم أنصار الجماعة في الوقت عينه قاعدة عسكرية عراقية في محافظة ديالى، وهو الهجوم الأكثر دموية منذ سنوات. وشمل هجوم الحسكة أيضًا ما لا يقل عن ستة مُفجِّرين انتحاريين، وأفاد مسؤولون من قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة أن الهجوم كان مُخَطَّطًا له منذ ستة أشهر على الأقل.

لهذا السبب، يجب النظر إلى محاولة الهروب من السجن في سياق تطوراتٍ أُخرى في أماكن أخرى حيث قد تكون لدى المجموعة فرص مُتزامِنة للظهور. في أفغانستان، كانت ولاية “الدولة الإسلامية” نشطة بشكل خاص بعد انسحاب الولايات المتحدة في أب (أغسطس) الماضي، وفي الأسبوع الفائت – بعد ثلاثة أيام من القتال في الحسكة – تبنّت هذه الولاية الأفغانية هجومًا في هرات أسفر عن مقتل سبعة أشخاص. وكان هذا آخر هجوم لتنظيم “الدولة الإسلامية” في أفغانستان؛ في بعض أجزاء البلاد، يحدث الأمر بشكلٍ أسبوعي.

وحتى أبعد من ذلك، يجب أن تُثيرَ التطورات في غرب إفريقيا القلق بشأن قدرة المجموعة المتزايدة على العمل على نطاق عالمي. في الواقع، ارتبط انقلاب بوركينا فاسو في 24 كانون الثاني (يناير) بالزيادة الأخيرة في الهجمات الجهادية، بما فيها من قبل ولاية “الدولة الإسلامية” في غرب إفريقيا. في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أدى هجومٌ عنيف شنّه مُتشدّدون إسلاميون إلى مقتل أكثر من 50 من أفراد الجيش والمدنيين، ما أدّى إلى احتجاجات دعت الرئيس آنذاك روش كابوري إلى التنحي. وبحسب بعض المعلومات، فإن اللفتنانت كولونيل بول هنري سانداوغو داميبا، الذي قاد الانقلاب في نهاية المطاف، قد اختلف وتلاسن مع كابوري في الأسابيع الأخيرة بشأن السياسة الأمنية في شرق البلاد. مثل هذه التحوّلات الدراماتيكية في السلطة، إلى جانب عدم الاستقرار المتزايد في المنطقة، تُهدّد بعواقب أمنية كارثية، وقد تُعزّز فقط قدرة “الدولة الإسلامية” على إبراز قوتها بعيدًا من قاعدتها الأم.

من الواضح أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يعتزم، بعد تراجعه وتقهقره في العراق وسوريا، التركيز على عملياته العالمية. بعد خسارة آخر أراضٍ له في سوريا في العام 2019، بدأت العمليات الإعلامية للتنظيم في التمحور، وتوجيه الموارد نحو التجنيد لفروعه في جميع أنحاء إفريقيا. كما طوّر وجودًا في أجزاءٍ جديدة من القارة السمراء، بما فيها إنشاء ولاية/إمارة وسط إفريقيا في شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية الذي مزّقته النزاعات. علاوة على ذلك، زادت الجماعات التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في إفريقيا – لا سيما في منطقة الساحل – من استخدامها للأسلحة المتطورة والعبوات الناسفة المُرتَجلة، ما قد يشير إلى زيادة التنسيق مع الجماعات العالمية.

هذا لا يعني أن أحدث هروب من السجن لتنظيم “الدولة الإسلامية” يُنذِرُ بالضرورة بموجةٍ جديدة من النشاط شبيهة بتلك التي كانت سائدة سابقًا. لقد تراجعت ثروات المجموعة، بطبيعة الحال، بسرعة منذ العام 2014. ومع ذلك، حتى في خضم الهزيمة المُفتَرَضة، احتفظت المجموعة بقدرتها على إلحاق أضرار كبيرة. ينبغي هنا التذكّر بأنه في غضون أيام من “هزيمتها” في العام 2019، نفذت الجماعة هجومًا انتحاريًا مُذهلًا ومُميتًا ضد القوات الأجنبية في سوريا. لقد أشارت الأدلة دائمًا إلى المرونة والتكيّف والتطور – وليس الهزيمة.

فقط الوقت سيُحدّد ما إذا كانت محاولة الهروب من السجن تُنذِرُ بتجدّد وعودة تنظيم “الدولة الإسلامية” في مناطقه الأساسية. لكن اقتران ذلك الهجوم بتزايد عدم الاستقرار في غرب إفريقيا وسقوط أفغانستان في أيدي طالبان يرسم صورة مقلقة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت سريعة في تقديم الدعم الجوي في الأسبوع الماضي في الحسكة، إلّا أن استجابات السياسة المستقبلية لن تكون بهذه السهولة، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى النطاق العالمي لعمليات المجموعة.

عندما اجتمعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول الساحل الخمس- التي تضم بوركينا فاسو ومالي والنيجر وموريتانيا وتشاد – هذا الأسبوع لمناقشة المخاوف الأمنية في منطقة الساحل، بما في ذلك في مالي وبوركينا فاسو، فإنه من المؤكد أن محاولة هروب تنظيم “الدولة الإسلامية” من السجن كانت تتردد بين المشاركين. لقد حان الوقت للتعرّف على كيفية ارتباط التطورات المحلية أو الإقليمية بالأنماط العالمية. بدون ذلك، ستكون أي خطة لمُحاربة عودة ظهور “الدولة الإسلامية” غير مُكتَمِلة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى