لبنان: في الجَدَلِ حَولَ “الإحتلالِ الإيراني”!

محمّد قوّاص*

حين جرى تداول عبارة “وصاية” في وصفِ الوجود العسكري للنظام السوري في لبنان، كان الأمر ديباجة “تسووية” بين رؤيتين لبنانيتين. واحدة اعتبرت ذلك الوجود احتلالًا يُمارِسُ في البلد ما يُمارِسه أي احتلال، وأخرى تعاملت مع هذا الوجود بأن له شرعية نهلها من “استدعاءٍ” شرعي لبناني محضته الدائرتين العربية والدولية بالرعاية والقبول، ناهيك من اعتبار ذلك الوجود “وطنيًا عروبيًا” لا يمكن وضعه على قدم المساواة مع إحتلال إسرائيل لجنوب لبنان.

والأمر كان أكثر حدّة ووضوحًا إبان وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان والذي حظي بشرعيةٍ ما إثر إبرام اتفاق القاهرة في العام 1969. تصاعد الموقف المسيحي-اليميني باتجاه اعتبار الوجود الفلسطيني احتلالًا يُمارِسُ ما يُمارِسهُ الاحتلال، فيما تصلّب الموقف الإسلامي-اليساري باتجاه احتضان هذا الوجود، لا بل التحالف معه تحت عناوين كبرى أممية قومية، كانت تخفي عناوين محلّية انعكست على توازن القوى الداخلي.

ولئن لم يختلف اللبنانيون على اعتبار الوجود الإسرائيلي احتلالًا، فإنهم انقسموا حول الموقف من العروبة بالنسخة البعثية الذي يستدرج وجودًا عسكريًا ثقيلًا في البلد، وحول الموقف من فلسطين الذي يستدعي في لبنان فقط، بعد سقوط التجربة الأردنية، قوات عسكرية فلسطينية “من أجل تحرير فلسطين” بعد سكوت جبهات الجوار.

على أن الحديث عن “احتلال إيراني” في لبنان هذه الأيام يرفع من مستوى الجدل الداخلي حول النفوذ الذي يمتلكه “حزب الله” في تقرير مسارات البلد الراهنة ومصيره المقبل. وإذا ما استخدم “الاحتلال” السوري والفلسطيني المُفتَرَض أدوات سورية وفلسطينية واضحة الطبيعة والهوية، فإن ذلك الإيراني مثار الجدل يجري في غياب وجود ألوية ومدرّعات وجنود إيرانيين، بل يستخدم في تمرين الاحتلال المفترض أدوات لبنانية تتمتّع بحاضنةٍ اجتماعية طائفية وتستند على تحالفات داخلية عابرة لكل طوائف البلد. وهنا تكمن الإشكالية.

والحال أن ما يصدر عن الواجهات الرسمية الممثِّلة للدولة اللبنانية -وآخرها ما صدر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقبله رئيس الجمهورية ميشال عون- يُكرّرُ للدوائر العربية والدولية، أن “حزب الله” حزبٌ لبناني مُمثَّل داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفيما يذهب عون إلى الدفاع عن سلاح الحزب بصفته “حاجة” لا يمكن لجيش البلاد تأمينها لوحده حتى الآن، ذهب رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري (لتبرير تسوياته) إلى اعتبار أن مشكلة سلاح “حزب الله” هي إقليمية دولية وليست لبنانية، بمعنى أن لا قدرة لبنانية على مقاربة معضلة تلزمها إرادات خارجية.

والواقع أنه منذ إعلان الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، بكل فخر أن ولاءه وحزبه هو للولي الفقيه في إيران، وأن “موازنه الحزب ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران”، فإن “حزب الله” أعلن نفسه قوة وجود إيراني في البلد يخضع بشكلٍ كاملٍ لأجندة طهران وفق ما تُقرّره خرائط إيران الجيوستراتيجية. ومع ذلك فإن تمتع الحزب بخاصية كونه جُزءًا من النظام السياسي اللبناني (بخلاف حالتَي التواجد السوري والفلسطيني) جعل من العسير وصم الحزب بتهمة الاحتلال ووسمه وفق هذا التعريف القانوني.

والحقيقة أن “حزب الله” مارس لحساب طهران سطوة داخلية قاهرة لا يمكن إلّا أن تكون مُرادِفًا للاحتلال. مورست تلك السطوة بالسلاح والقوة على الشيعة ما فجّر “حرب الأخوة” داخل الطائفة نفسها في الثمانينات الفائتة. ومورست من خلال “غزوة 7 أيار” وتحريكه قبل وبعد ذلك الشارع الشيعي لمحاصرة مؤسسات الدولة وفرض قراره على البلد. ومورست بوقوف الحزب وراء أنشطة أمنية لا سيما عمليات الاغتيال التي اتهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان واحدًا من عناصره باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتُمارَس تلك السطوة في الإمساك بقرار السلم والحرب واستخدام مواطنين لبنانيين لتنفيذ عمليات عسكرية وأمنية في الخارج (سوريا، العراق، اليمن، الخليج.. إلخ) ودائماً لحساب الحاكم في طهران.

غير أن صفة “الاحتلال” التي تلقى مزيدًا من الرواج داخل الرأي العام اللبناني ما زالت، وكما حال مرحلة الوجود السوري الفلسطيني، تخضع لوجهاتِ نظرٍ لبنانية. ولئن لم تتعامل البيئة العربية مع الحالتين السورية والفلسطينية بصفتهما احتلالًا على الرغم من خلاف بعض العرب مع القيادتين السورية والفلسطينية، فإن دوائر الخارج، بما فيها العربية، ولا سيما في الوضع الحالي، لا يُمكن أن ترى احتلالًا إيرانيًا في لبنان يجوز التعامل معه وفق قوانين وشرائع التعامل مع أيّ احتلال. حتى أن تَصاعُدَ وتيرة التخاطب بين السعودية و”حزب الله” مثلًا تجري بمعزل عن ورشة الحوار الجارية بين الرياض وطهران.

والحال أن دعوة لبنانيين إلى التخلّص من “الاحتلال” الإيراني في لبنان سيُضعِفها تمسّك لبنانيين آخرين بلبنانية “حزب الله” وشرعية وجوده وتجذّره داخل المجتمع اللبناني. وعلى الرغم من الحرص الشديد من قبل الداعين لمواجهة “الاحتلال” على التفريق الجليّ والواضح بين الاحتلال الإيراني ومكانة ودور الطائفة الشيعية في البلد، فسيكون من السهل، بما يملكه الحزب من سطوة تاريخية داخل تلك الطائفة، استثارة عصبية ترى في تعبير “الاحتلال” مسًّا خطيرًا بحكاية الشيعة وحاضرهم في لبنان الحديث.

وما نسوقه لا يخفى أبدًا على مَن يدفع لتعويم قضية “الاحتلال الإيراني” وجعلها أولوية في سلّم ما يقف وراء كارثة البلد. كما لا يخفى عليهم أيضًا أن سعيهم سياسي بامتياز لا يرقى، على الرغم من أهميته، إلى مستوياتٍ قانونية تحظى بوفاقٍ أهلي تتبنّاها الدولة اللبنانية بإمكانها تغيير القواعد الدولية الحالية التي تتعامل مع الحالة الإيرانية. ولا يخفى أيضًا وأيضًا أن الدول التي يرتفع عددها والتي تضع “حزب الله” على لوائح الإرهاب، قد تذهب إلى حدّ يستنتج مسؤولية الحزب المسلّح في تفاقم اهتراء البلد، من دون أن تعتبره، على رُغم ولائه لإيران، احتلالًا تمارسه دولة أجنبية على لبنان.

وإذا ما قورنت حالة لبنان بحالتَي العراق واليمن، فإن سطوة إيران لدى هاتين الدولتين مفصلية في أزماتهما من دون أن يرقى الوضع إلى اعتبار الأمر الواقع احتلالًا إيرانيًا مهما ذهبت الميليشيات التابعة لإيران هناك في التحرّك وفق أجندة إيران وحدها. وقد يجوز تأمل مفهوم “الاختطاف” الذي جادل فيه الكاتب السياسي اللبناني حارث سليمان دور “حزب الله” في لبنان في كونه مثالًا عن جدلٍ لم يُحسَم في هذه المسألة.

والحال إن دخول تعبير “الاحتلال الإيراني” على مُفردات التخاطب السياسي ما زال غامض التداعيات على موقع “حزب الله” في المشهد الداخلي، ذلك أن عدم التوافق على تعبير “الاحتلال” الإيراني والانقسام حوله، كما كان ذلك مع السوري والفلسطيني، من شأنه تحرّر الحزب من تلك التهمة واعتبارها مشبوهة. ومع ذلك فإن تطوّر الجماعات اللبنانية صوب تبنّي صفة “الاحتلال الإيراني” من شأنه أن يُعيدَ تعريف وظيفة الحزب لدى اللبنانيين ولدى الشيعة في لبنان بشكل خاص.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى