الحِوارُ الوطنيُّ مَسارٌ وإبداعٌ ديموقراطي

ناظم الخوري*

الحِوارُ الوطني مسارٌ ديموقراطي بامتياز، لا تلبية لدعوةٍ اجتماعية. من هنا فإن تسمية “طاولة الحوار” بحدّ ذاتها فيها تشوّه ركني لمبدإِ الحوار. الأجدى تسميته “هيئة حوار وطني”. هذا في الشكل. أما في الجوهر فالحوار يقوم بين أطرافٍ مختلفين، ومَن يدعو إليه يكون مرجعًا حياديًا جامعًا قادرًا على التقريب بين المُتباعدين.

يوم شارك المرحوم غسان تويني في هيئة الحوار الوطني في العام 2008، اعتبرها إبداعًا ديموقراطيًا كونها تضم السلطات الدستورية والسياسية من كل الأفرقاء، كما وجوهًا فكرية وقانونية. في الواقع إن هيئة الحوار تعتبر هيئة “تحضير دستورية” (Para constitutionnelle) كونها تُمهّد لتسهيل تطبيق ما لم ينفّذ من بنود الطائف لا سيما إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي نصّت عليها الفقرة “ح” من مُقدّمة الدستور وإزالة العوائق التي تحول دون ذلك من طريقِ اعتمادِ استراتيجيةٍ دفاعيةٍ يتوافَق عليها كل الأطراف.

لبنان هو بلدُ الأزماتِ الدائمة بسبب تكوينه المذهبي. والحاجة إلى وجودِ مساحةٍ مُشتَركة تلتقي فيها كل القيادات هي حاجةٌ مُلِحّة. المكان الأنسب للحوار الوطني هو القصر الجمهوري. فالرئاسة الأولى المُؤتَمَنة على الدستور هي المرجعية الصالحة لدعوة جميع الأطراف إلى حوارٍ وطني ولترؤسه وضبط إيقاعاته. وهذه المبادرة تحُصّن موقع رئاسة الجمهورية وتُسهّل تطبيق القرارات الوطنية لحماية السلم الأهلي. إلا أن الحوار الوطني ليس مجرد مُبادرة عفوية، أو لقاء عابر حول طاولة، إنما هو مسارٌ له قواعده وآلياته. لكن على راعي الحوار أن يعتمدَ نهجَ الإعتدال والحكمة ليكون الحَكَمَ القادر والمقبول من جميع الأفرقاء.

يوم كلّفني الرئيس ميشال سليمان ملف الحوار الوطني من خلال تنسيق العمل مع لجنة تحضيرية، ضمّت نُخبةً من أصحابِ الكفاءات والخبرات ومن الدستوريين والقانونيين والأكاديميين والخبراء العسكريين، أنشأنا لأجل ذلك أمانة سر وسكرتاريا مُتخصصة بإدارة المؤتمرات تحضيرًا للجلسات التي انعقدت في القصر الجمهوري. كان المطلوب من هذه اللجنة تحضير مواضيع الحوار ومواكبته. وقد استعانت بلجانٍ فرعية عدّة في موضوع الاستراتيجية الدفاعية وغيرها.

عقدت اللجنة بين العامين 2008 و2014 مئة وأربعة وعشرين اجتماعًا. وانطلقت في عملية استقصاء المعلومات وجمع الدراسات والمواقف وعملت على تحليلها ومواكبتها لتتماشى مع الحوار.

في تلك المرحلة، كان ثمة تجاذبٌ سياسي حول المشاركة في الحوار بين الأفرقاء المعنيين وخلافٌ حول المحكمة الدولية والاستراتيجية الدفاعية، ثم على تدخّل “حزب الله” في سوريا.

إنعقدت سبع جلساتٍ للحوار الوطني من كانون الأول (ديسمبر) 2008، حتى الأول من حزيران (يونيو) 2009، قبل إجراء الإنتخابات النيابية. وفي 1 آذار (مارس) 2010 استُؤنِفَت الاجتماعات تحت مُسمّى هيئة الحوار الوطني، وانعقدت تباعًا الجلسات الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، ونوقش فيها موضوع الاستراتيجية الدفاعية وملفا النفط والعلاقات اللبنانية-السورية، وذلك قبل الحادي عشر من حزيران (يونيو) 2012، تاريخ صدور إعلان بعبدا الشهير، الذي طالب بتحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية حرصًا على مصلحته العليا، ووحدته الوطنية، وسلمه الأهلي، وضبط الحدود، ومنع تهريب السلاح وتسلّل المُسلّحين.

إنني أرى أن دعوة الرئيس ميشال عون الآن للحوار أتت متأخّرة، وهي اليوم عقيمة وغير مُجدية، كما أن رئيس الجمهورية بات يفتقد إلى إجماع الأفرقاء السياسيين والشعب، عكس ما كانت عليه حاله في بداية عهده. وتأتي هذه الدعوة عشية انطلاق التحضيرات للإنتخابات البرلمانية، وغداة الأزمة مع دول الخليج، وفي ظلّ انهيارٍ اقتصادي، وتدهورٍ معيشي وارتدادات ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 التي لا تزال حيّة.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الرئيس عون فوّت فرصة ذهبية في بداية عهده لإطلاق ورشة عملٍ إصلاحية على كل الصُعد نظرًا لما كان يملك من أوراق، وخصوصًا مع حليفه الأساسي “حزب الله” بما خصّ سلاحه، ولتنفيذ جميع مُقرّرات إعلان بعبدا.

هي ثالث دعوة حوار تلتئم في قصر بعبدا في عهد الرئيس عون. ففي أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩ انعقدت “جلسة حوار” خُصِّصَت لمناقشة الأزمة الاقتصادية المالية. وفي أيار (مايو) ٢٠٢٠ انعقدت جلسة حوار بهدف تأمين الغطاء السياسي لخطة الحكومة الاقتصادية التي على أساسها ستتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وتتخذ قرارات غير شعبية.

ما يختلف في الدعوة الرئاسية الثالثة الحالية أنها تتم تحت عنوان «طاولة حوار وطني» غير محصورة بالأزمة الاقتصادية والمالية، وإنما تتجاوزها الى البحث السياسي في مجمل التطورات.

فكيف لهذه الدعوة أن تنجح في ظل مقاطعة مُكوّنات عدّة أساسية وحكومة معطّلة؟! كان بالأحرى أن يحاور رئيس الجمهورية الفريق المعطّل أي الثنائي الشيعي لإطلاق ما تبقى من العجلة الإقتصادية والمؤسسات العامة.

فعشية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان، واتساع شقّة الخلاف بين اللبنانيين، وفَشَل كل المبادرات لرأب الصدع، دعا الرئيس نبيه بري في 2 آذار (مارس) إلى حوارٍ وطني ضم 14 قطبًا سياسيًا. لكنه لم يأتِ بأية نتيجة، سوى تنفيس الاحتقان القائم في البلاد.

يُمكن اعتبار هيئة الحوار في عهد الرئيس ميشال سليمان وإعلان بعبدا الذي أُقِرَّ يومها، وموافقة “حزب الله” عليه، الثمرة الوحيدة الناجحة في مسلسل الحوارات الوطنية. إلا أن “حزب الله” لم يلتزم لاحقًا بالإعلان المذكور. في حين حاز الإعلان اعترافًا من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.

إن الظرف غير ملائم راهنًا لحوار، سواء لناحية توقيته او متطلبات نجاحه، وتحديدًا بالنسبة الى العناوين الثلاثة المطروحة، وهي خطة التعافي المالي تمهيدًا لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، كما بالنسبة إلى الاستراتيجية الدفاعية، واللامركزية الإدارية والمالية الموسعّة.

كما إن الحوار الوطني ولو أنه يُكرّس إرادة العيش معًا وتقديم تنازلات من أجل الوطن، لا يجوز أن يُغيّب منطق المحاسبة ومكافحة الفساد والإقتصاص من الفاسدين من خلال إشراك هيئات المجتمع المدني. إن متطلبات الحياة اليومية وتأثّر السياسة بالتطورات المحلية والإقليمية والدولية تفرض أن يبقى الحوار شأنًا مستمرًا لاكتشاف المساحة المشتركة والإنطلاق منها إلى رؤية واحدة، وتبديد حالة الجمود والنزاعات. فالحوار يفتح آفاق التعاون ومواجهة التحديات، ويدفعنا إلى التخلّي عن الخيارات العنفية التي تمارس الإقصاء، ويخلق عوامل ثقة على قاعدة احترام الرأي الآخر، فيما لو كان جميع الأطراف المتحاورين جديين في حوارهم، هادفين إلى تطوير منظومة منسجمة، تواكب متطلبات اللحظة المصيرية التي نعيشها.

  • ناظم الخوري هو نائب ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @NazemElKhoury
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” -(لندن) – توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” – (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى