ثُلاثِيَّةُ القصيدة: عبدالله المصري حداثة شرق عربية

المفكر الشهيد حسين مروّه

عمار مروّه*

(17 شباط/فبراير: ذكرى اغتيال حسين مروّه)

إنها “قصيدة” المؤلف الموسيقي العربي العالمي د. عبدالله المصري (عضو جمعية المؤلفين الموسيقيين الروس) مُهداة الى حسين مروّه بعنوان “مغناة”(*) كتبها للثلاثي: تشيلو، بيانو، والصوت (الميتزوسوبرانو). مزج موسيقي يؤكد منذ النوطات الأولى ان المصري استوعب شخصية حسين مروه مفكرًا معمِّقًا، خارج النص الشعري الذي يتوسله الشاعر فكريًا وانسانيًا ليحاكيه بقصيدة ذات صور شعرية وصَفت اغتياله باللُغة والصوت والشعر، فتشرّب منها المصري تلك الحالة وعَبَّر عنها فنيًا لا كفكرة “تلحين” القصيدة بل بإظهار قدراته العالية في التأليف الموسيقي الـمُكثف، ما يجمع الموهبة بالحرفية العالية الممتلئة بلاغة.

حداثة مغايرة

والمصري، كسائر اعماله منذ مطالع مسيرته الابداعية، يدخل رأْسًا الى التأليف متمكِّنًا من الانعكاس -او الإسقاط- بلا تكلُّف، وبأسلوب يقارب الموضوع الموسيقي بحداثة استثنائية لم ينتهجْها غيره ممن دخلوا مسرح الحداثة في التأْليف. ذلك أنه يمتلك قدرة الخوض بأدق التفاصيل في صدقية وحرَفية قادرتين على تصوير افكاره الموسيقية التي تتوسل العالمية من باب المحلية دون ان تتصنّع السعي وراءها، وتستنطق ما في جوهرها من جدوى عناصر يجري تسخيرها لجذورنا الشرقية، فَيُخْضِعها هو لمنطِقها الشرق عربي، بأساليب وطرائق وتقنيات من داخل مادة موسيقية هو استنبطها وطوّعها اسلوبَ تفكير موسيقي مركَّب بأعمق تقنيات التأليف المشبعة بالمودالية المعاصرة. من هنا أنها تتفاعل داخليًا بمدرسة المقام العربي وبطابع درامي سمفوني يحمل ملامح الكونشرتو بأسلوب نُخبوي التفكير بعيد الأفق، خارج نمطية التفكير المسطّح السائد بين مؤلفين يتجاذبون تقنيات مختومة بأنماط مدرسية منسوخة توحي بانفتاح معاصر كاذب.

عبدالله المصري

لغة موسيقية مفتوحة على الحداثة

كنتُ قبل سنوات (2014) حلّلتُ عمله الموسيقي لقصيدة بدر شاكر السيَّاب “انشودة المطر”، وجمْعَه عناصر الكونشرتو والاوراتوريا (بيانو رامي خليفه وصوت اميمه الخليل واوركسترا كابيلا موسكو السمفونية الروسية) وشرحتُ كيف استنبط المصري عناصر لغته الهارمونية والميلودية المُبتكرة منذ مؤلفاته الموسيقية الأولى: جزيئات انتقاها بعناية من مقامَي الحجاز والكرد، جمعها متأنيًا بعد اختبارات وتجارب ليختار منهما عناصر تناسب لغة الموسيقى العربية المفتوحة على الحداثة، وشكّل منها جميعها لغة شخصيته الموسيقية المتطورة. ومنها ابتكر توافقات سمعية أفقية وعمودية اعتمدها منذ تلك البواكير لبناء انسجة عوالمه الصوتية الخاصة في اعماله لموسيقى الحجرة والسمفونية.

وهذه الآن في عمله الجديد “مغناة” كثافة غنية تحمل ثراء بلاغته في تأليف مفتوح على ١٥ دقيقة يملأها الثلاثي نماذج تفاصيل لتأليف موسيقي نموذجي يُحتذى استنطاق المصري به ضرورات الدخول على الحداثة في التأليف الموسيقي الشرق عربي، ما يثبّت القربى مع هذه الحداثة بجزيئات موسيقانا متفاعلةً عالميًا من منابعها الداخلية (الكرد والحجاز).

تصوير المأْساة موسيقيًّا

هكذا بدأ الثلاثي بدخول التشيلو منفردًا كمناجاة تمهد لحدث الاغتيال المفتوح على ألم الفقدان الفكري الثقافي الموسوعي التاريخي الذي ضرب الفلسفة العربية الاسلامية، فيما كان الشهيد حسين مروّه يتهيَّأُ لوضع الجزء الثالث من موسوعته “النزعات المادية في الفلسفه العربية الإسلامية”. يطوي التشيلو هذا الوجع على مقامي الكرد والحجاز بعيدًا عن الكلام لفترة طويلة تتيح دخول البيانو بترقب مفتوح على الخفر، فتتصارع الآلتان (التشيلُّو والبيانو) بأفكار لحنية قصيرة، في قالب موسيقي مترابط معقد البناء، ذي بريق سمعي ربط به المصري تفاصيل المأساة بأفكار تتصارع وتتفجّر، تنصهر احيانًا وتتفكك احيانًا، فترسم مأساة يندمج فيها الغناء بباقي الآلات، ما يُذكِّر موسيقيًا بصلابة الباروكيين في تآلفات النسيج التأليفي الأوركسترالي بنماذج هارمونية واضحة تطل على الحداثة بملامح شرقية  في ذاكرتنا السمعية، وهي تروي الحدث المأْساوي بعيدًا عن منطق “التلحين”. هكذا صوّر المصري مأساة الموت واغنية المهد الختامية: مشاعر الرغبة في الانبثاق من الواقع يرنو الى راحة الفرح الآتي من لقاء الموت (اغلَقَ الهواء عليه ونام”). إنها انفعالات سمعية ترمينا في مشاعر يصعب رسمها ببساطة، في باقة مشاعر انسانية متناقضة تجسد فاجعة غياب هذا المفكر الفريد.

فاديا طنب الحاج والمجموعة

ولو استعضنا عن غناء النص الشعري بصوت آلة اخرى (الفلوت او الفيولا) لبقيت قوة التعبير الموسيقي قادرة على تصوير ألم الفقدان القاسي لرحيل حسين مروه، ما يثبت عمق القدرات المعرفية المقترنة بموهبة التأليف لدى المصري في استيعابه ومرافقته حالة فكرية وانسانية يمثّلها المفكر الموسوعي حسين مروّه اثناء التأليف.

في هذا العمل العالي الإتقان، المكتوب موسيقيًّا قبل 35 سنة، يخرج اليوم بأداء الميتزوسوبرانو فاديا طنب النادر، بمصاحبة مجموعة فراغمنت، وعازفَي التشيلو والبيانو في مهارة دراميه باهرة.

  • عمّار مروّه هو كاتب وصحافي لبناني مُقيم في بلجيكا.
  • “مغناة”: عمل مُهدى إلى حسين مروّه. التأليف الموسيقي: عبدالله المصري، النص الشعري: بول شاوول (١٩٨٨)، أداء فاديا طنب الحاج ومجموعة “فراغمنت”.
  • رابط العمل على قناة يوتيوب:  https/youtu.be/_ePEWMkaMzM

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى