شَعبُ العَذاب والمُرَشَّح الكذَّاب

هنري زغيب*

أَسخفُ ما يوجِعُ في هذه الأَيام المالحة: هذه الهوَّةُ الرهيبة الـفاجعة بين المواطنين في بيوتهم الضامرة، والسياسيين في قصورهم العامرة.

أَقول: الهوَّة “الرهيبة الفاجعة” وأَقصِد الصفتَين معًا: ففيما المواطنون يبحثون عن إِنتاج معيشيّ يوصلهم إِلى الحياة، يبحث السياسيون عن پـوانتاج إِنعاشي يوصلهم إِلى الانتخابات.

الناس مُربَكون خائفون تائهون بين مِطرقة الدولار ومِقصلة الـمُرابين في كلِّ قطاع، وأَهلُ السياسة مشغولون بالتحضير للانتخابات وتحالُفات الانتخابات وإِغراءات الانتخابات ووعود الانتخابات ولو من خزينة الدولة التي، برعونة سياستهم، لم يُبْقُوا فيها ليرةً على ليرة.

وعلى ذكْر الوعود الهوائية والعنتريات الدونكيشوتية، وصَلَتْني أَمس من صديق لي في السويد هذه القصة عن مرشَّح للانتخابات وصل إِلى قريةٍ نائيةٍ يشحَنُ سكانها وُعودًا لتأْيــيده يوم الانتخاب. تَجمَّع حوله شبَّان في الساحة، فسأَلهم عن أَهمِّ ما يَنقُصهم في القرية، فأَجابوا أَنهم يَفتقدون عنصرَين ملحَّين. “ما الأَول”؟ سأَلهم، فأَجابوا أَنْ ليسَت في القرية ولا في القرى المحيطة مدرسة رسمية. فقال: “هذه بسيطة. الآن أَتَّصِل بمكتبي كي تُدوِّنَ السكرتيرة هذا البند، أُثيرُه غدًا في المجلس النيابي”. وكي يدلَّ على صدْق اتصاله بمكتبه، أَخذ من شاب هاتفه الخَلَويّ واتصل مخاطبًا سكرتيرته مشدِّدًا أَن تضع ذلك أَولَ بنْدٍ في لائحة مطالبه غدًا في مجلس النواب.

“ما الأَمر الآخَر؟” سأَل، فابتسم الشاب صاحبُ الهاتف الذي أَجرى منه المرشَّح اتصالَه، وقال له: “تنقُصنا يا أُستاذ شبكة هاتف خَلَويّ. ففي كامل هذه المنطقة حولنا ليسَت لدينا تغطيةُ إِرسالٍ كي نستخدم هواتفنا الخَلَوية”.

هذه الكذبةُ الفاضحةُ واحدةٌ من نماذجِ وُعودٍ سيُغدِق بها المرشَّحون الناس من اليوم حتى موعد الانتخابات. وكما ذاك الشابُ في القرية فضَح المرشَّح الكذَّاب، أَتمنى أَن يفْضَح الناسُ المرشحين. فسوف يسمعون الكثير من الوُعُود والإِغراءات والبطاقات التمويلية والتموينية وسائر لوازم الكَذب الانتخابي، خصوصًا ممَّن يَشعرون أَنَّ كراسيهم النيابية تهتزُّ مهدِّدةً مستقبلَهم السياسي بعد دونكيشوتياتهم خلال سنواتٍ أَربعَ ماضيةٍ لم يَبْنُوا لناسهم سوى قصور في الهواء. ولا أَظنُّ سيبقى للمرشحين إِلَّا زُمرةُ سُذَّجٍ بين أَزلامهم سيظلُّون يصدِّقونهم ويَرَون فيهم خيرَ من يُنقذ لبنان من كوارثه المتراكمة.

حالُ هؤُلاء السُذَّج الأَغناميين المساكين تُذكِّرني بما جاء في مقدمة ابن خلدون أَنَّ “المغلوب يتشبَّه بالغالب في أَحواله. فالعامَّة على دين ملوكهم، لأَنَّ الملِكَ غالبٌ كلَّ مَن تحت يده، وأَهلُ الرعية مُقْتدون به لاعتقاد الكمال فيه”.

حالُ المرشَّحين الكذابين تنطبق عليهم عبارةٌ بليغةٌ للكاتب الإِنكليزي جورج أُورويل كتبَها سنة 1948 جاء فيها: “الشعبُ الذي يَنتخب الفاسدين والمحتالين والكذَّابين واللصُوص والخَوَنة، ليس شعبًا ضحيَّة بل شعبٌ مُتَواطئ”.

شعبُنا اليوم، بعد الذي يمرُّ به من فواجعَ في لُقمة عيشه وقرشه المسروق ورعبه من الآتي، لا أَظنُّ أَنَّ فيه بعدُ سُذَّجًا خانعين مساكين يَتَواطأُون ضدَّ عِيالهم فيُعيدون انتخاب مَن كانوا همُ السبب في إِيصال الشعب إِلى أَسوإِ فقْر وذُلٍّ وقهرٍ وحرمانٍ وتهجيرٍ وكلِّ ما لم يعرفه، في أَحلَكِ مراحله، تاريخ لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى