منصَّة صواريخ في عيد الاستقلال

هنري زغيب*

قبل ثلاثين عامًا، طوال إِقامتي ستَّ سنواتٍ في “المنأَى الموَقَّت” على بحيرة الليمون – فلوريدا، كنت أُتابعُ على قناة “سي بي أس” (CBS) البرنامج اليومي “الخَطَر” (Jeopardy) يقدِّمه المذيع أَليكس تْريبيك (توفي سنة 2020) بأَسئلة ثقافية يجيب عنها المتبارون في الستوديو. وذات ليلةٍ طرح هذا السؤَال: “أَيُّ دولة في الشرق الأَوسط أَطلقَت صاروخًا اسمُه “أَرز 4” وصدَر الحدَث على طابع بريدي”؟ وفيما إِحدى فتيات ثلاث مُشاركات سمَّت دولة عربية، سمَّت الباقيتان لبنان وكان الجواب صحيحًا.

قبل ثماني سنوات (14 تشرين الثاني/نوڤمبر 2013) عرضَت قناة “بي.بي.سي” الإِخبارية تقريرًا مصوَّرًا وثَّقت فيه الحدَث حين مانوك مانوكيان (الأُستاذ عهدئذٍ في معهد هايكازيان – بيروت) أَطلق صاروخًا كان الأَول من نوعه في العالم العربي. فمانوكيان العائد سنة 1960 من الولايات المتحدة مُجازًا في الفيزياء من جامعة تكساس، عمِلَ مع فريق من سبعة طلَّاب وطالبات في مختبر خاص وفَّره له معهد هايكازيان، وأَدار الفريقَ في تركيب مفاصل الصاروخ وموادِّه الكيماوية اللازمة لإِطلاقه. لم يكن يملك المال فاجتزأَ من راتبه وتقاضى دعمَ 750 ليرة من النائب إِميل البستاني، ما أَمَّن له إِنجاز أَول صاروخ سمَّاه “أَرز 1″، أَطلقَه من شاطئ ضبيّه (10 كلم شمالي بيروت) في 13 نيسان/أَبريل 1961، بلَغ نحو 1000 متر في الفضاء وسقَط في البحر قبالة الروشة  (بحر بيروت). وفي العام ذاته أَسَّس “النادي اللبناني للصواريخ”، وأَطلق صاروخ “أَرز2” بلغَ علوَّ 2000 متر.

تكريمًا هذا العملَ الرائد أَقامت وزارةُ التربية الوطنية على شرفه حفلة كوكتيل برعاية رئيس الجمهورية اللواء فؤَاد شهاب، أَبلغه خلالها الوزير كمال جنبلاط قرارَ الرئيس منْحَه 2500 ليرة لمساعدته على مواصلة أَبحاثه واختباراته الفضائية. هكذا أَطلق مانوكيان صاروخ “أَرز 3” سنة 1962، ويومَ الاستقلال (22 تشرين الثاني/نوڤمبر) سنة 1963 أَطلق صاروخ “أَرز 4” قاطعًا 140 كلم. ويوم عيد الاستقلال التالي (1964) أَصدرَت الدولة اللبنانية طابعَين بريديَّين تذكاريَّين من فئة 5 قروش و10 قروش. عامئذٍ سافر مانوكيان إِلى جامعة تكساس يُكمل دراسة الماجستر، وعاد إِلى بيروت سنة 1966 يُكمل مغامرته الرائدة، فأَطلق صاروخًا جديدًا من شاطئ ضبيه، صدَر يومها على الصفحات الأُولى من الصحف اللبنانية الرئيسَة (“النهار” و”الدايلي ستار” والأُوريان”). غير أَن مغامرة مانوكيان الرائدة اصطدَمت باندلاع حرب الأَيام الستة في 5 حزيران/يونيو 1967، فغادر نهائيًّا إِلى الولايات المتحدة أُستاذًا لدى “جامعة جنوب فلوريدا” في تامپا، حتى تقاعُده قبل سنوات. وهو اليوم في السادسة والثمانين ما زال في الجامعة مستشارًا لمختبر الفضاء والصواريخ.

في ختام تقرير الـ”بي بي سي”، يقول مانوك مانوكيان: “لبنان بلد صغير، لكنه حقَّق إِنجازًا رائدًا بين البلدان العربية، يُكمل الريادة اللبنانية في قطاعات أُخرى”.

مانوك مانوكيان إِخاله، يوم عيد الاستقلال هذا العام، يتابع أَخبار لبنان فتَحمله ذكرياتُه كيف في عيد الاستقلال قبل 60 سنة أَنشأَ منصَّة صواريخَ جعلَتْ لبنان رائدًا بين الدول العربية، وكيف لبنانُ اليوم، بعد 60 سنة وبسبب حُكَّامه النيرونيين، سبَقَتْه الدول العربية، وهو بات شحَّادًا تُلْقِمُهُ الدُوَل فتاتَ مساعداتٍ تسخو بها للمشرَّدين بين أَنياب الفقر، وبَرَاثن الذُل، ومَخالب الجوع، واستجداء حَبَّة الدواء ونُقطة البنزين ورغيف الخبز وحليب الأَطفال.

وإِخاله يُطلق على حكَّام لبنان لعنةً لا أَستطيع سَماعها لبُعْد المسافة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى