العِبرة للعالم من القمّة الأميركية-الصينية الافتراضية

كابي طبراني*

نعيشُ اليوم في عالمٍ ليس فقط يكتظّ بالخلافات والأزمات، ولكن تُهدّده مواجهة تلوح في الأفق. في الشهر المقبل، سيستضيف الرئيس الأميركي جو بايدن أول قمة من اثنتين للديموقراطية، اللتين تهدفان إلى تجديد “شباب” الأنظمة الديموقراطية وكذلك محاربة “القادة الاستبداديين … الذين يتجاوزون الحدود لتقويض الديموقراطيات”، وفقاً للبيت الأبيض. ليس من الضروري هنا أن نذكر أن الصين وروسيا هما الهدفان.

التوتّرات الدولية تتصاعد. حذّر عددٌ كبير من السياسيين الغربيين وكبار القادة العسكريين خلال الأشهر القليلة الماضية من احتمال نشوب حرب على تايوان. والآن لا يُمكن استبعاد اندلاع حرب شاملة في أوكرانيا. وحذّرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في أحد تقاريرها هذا الأسبوع من أن “قعقعة السيوف يجب أن تؤخَذ على محمل الجدّ”. إثيوبيا على شفا حرب أهلية شاملة. وتفيد تقارير عدة إن نيجيريا مُهدَّدة بالتمرّد وانفصالٍ مُحتَمل. كما توقّع مُعلقون وخبراء غربيون احتمال وقوع حربٍ بين إسرائيل وإيران و”حزب الله” في الربيع المقبل إذا فشل مؤتمر فيينا…

وسط كل هذه التوترات المتصاعدة، فإن روح التسوية غائبة تماماً. ربما يرجع ذلك جزئياً إلى أن العديد من هذه الخلافات يُقال إنها تتعلّق بمبادئ -السلامة الإقليمية، أو أنظمة الحكم- التي لا يُمكن تجاهلها. القيام بغير ذلك، يذهب الاتهام، ينمّ عن مُهادَنة واسترضاء واستسلام. هذا تشويه يصعب تجاهله، حيث لا أحد يرغب في أن يُوضَع إلى جانب -لإعطاء مثال تاريخي- قادة الحرب الذين يُعتَقَد أنهم هادنوا واسترضوا أدولف هتلر قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. هذا هو المدى الذي وصل إليه ازدراء المُصطَلَح.

لكن التسوية ليست مُهادَنة أو استرضاء بل هي حلٌّ وسط يُرضي الجميع. فإن التسوية هي التي حافظت على السلام في تايوان، كما كتب أستاذ جامعة هارفارد غراهام أليسون أخيراً في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” (The National Interest): “عندما أقامت الولايات المتحدة والصين علاقات رسمية في ظل الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر، أدرك رجال الدولة أن قضية تايوان لا يُمكن حلّها – لكنها ليست مسألة غير قابلة للإدارة. وقد غلّف الإطار الديبلوماسي الذي أنشأوه الاختلافات التي لا يُمكن التوفيق بينها في غموضٍ استراتيجي منح جميع الأطراف خمسة عقود من السلام الذي شهد فيه الأفراد على جانبي المضيق زيادات أكبر في رفاههم مُقارنةً بأيِّ فترةٍ مُماثلة في تاريخهم”.

التسوية – إذا نَحّينا جانباً الاشتباكات الحدودية الأخيرة – هي التي منعت الصين والهند من خوض الحرب مرة أخرى على مساحة كبيرة من الأراضي المُتنازَع عليها، والتسوية هي الحل العملي الوحيد للعديد من المطالبات المتنافسة في بحر الصين الجنوبي.

التسوية ليست ضعفاً. ومع ذلك، فإنها ربما تنطوي بالضرورة على فَهمِ وتفهّم دوافع ومبادئ الآخرين، حتى لو كنتَ لا توافق على صحّتها. لعقودٍ من الزمن، سمح هذا المسار بتوافق الحزبَين في مجلس الشيوخ الأميركي. لم يأتِ الحزب دائماً أوّلاً، وازدهرت الصداقات الشخصية عبر الحزبَين. وبالمثل، في المملكة المتحدة خلال الستينات الفائتة، تحالف اليميني المحافظ إينوك باول والاشتراكي مايكل فوت لنسف ما اعتبراه محاولة مُعيبة لإصلاح مجلس اللوردات. في لبنان التسوية كانت المفتاح لأي حلٍّ لأي أزمة، فمن اتفاق الطائف إلى انتخاب رؤساء الجمهورية إلى تأليف الحكومات…

أن نفهم ونتفهّم ليس معناه أن نتغاضى. ولكن لنأخذ حالة الصين، إن الإخفاق في تقدير كيف ساهم “قرن الإذلال” في خلق شعورٍ طبيعي تماماً بالقومية، وأنه لا ينبغي إنكار مكانة الدولة التي تستحقها كقوة عظمى، أعمى بصيرة النقاد الغربيين الذين لم يَعُودوا يرون سوى العدوان. لو كنتُ نشأتُ في الصين، على سبيل المثال، فلن أكون بالضرورة شيوعياً، لكنني بالتأكيد سأغضب من فكرة أن القوى الاستعمارية القديمة تتّحد مرة أخرى لاحتواء البلاد. كانت التسوية إحدى نتائج الاجتماع الافتراضي الذي عُقِدَ ليلة الاثنين الفائت (15/11/2021)، ودام حوالي 3 ساعات ونصف، بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، حيث اتفق الزعيمان على ضمان ألّا تنحرف “منافستهما البسيطة والمباشرة” إلى صراع.

وبالمثل مع أوكرانيا، إذا استمر الغرب في محاولة دعم كييف واحتضانها من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فسيكون ذلك بمثابة تجاهل أحمق وخطير لكيفية نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جارته الجمهورية الاشتراكية السوفياتية السابقة. في العام 2008، قال بوتين لرئيس الولايات المتحدة آنذاك جورج دبليو بوش: “عليك أن تفهم، يا جورج، إن أوكرانيا ليست حتى دولة. يقع جزءٌ من أراضيها في أوروبا الشرقية، والجزء الأكبر منها قد أُعطي لنا”. إعتبر الغرب في حينه كلماته غرابة وطنية. لكن بوتين أظهر أنه كان يقصد ذلك حقاً في مقال نشره هذا الصيف، كتب فيه أن الروس والأوكرانيين هما “شعبٌ واحد” وأن “الجدار الذي ظهر في السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، بين الأجزاء التي هي في الأساس الفضاء التاريخي والروحي نفسه، في رأيي هو أكبر محنة ومأساة مُشتركة لنا”.

كونك عقلانياً ومنطقياً لا يعني الاستسلام لطموحات موسكو – مهما كانت. لكن التسوية المناسبة قد تشمل القوى الغربية التي تضمن في الوقت عينه استقلال أوكرانيا وتعطي التزاماً غير قابل للإلغاء بأنه لن يُسمح لها أبداً بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف “الناتو”.

وأيضاً في لبنان، ينبغي على “حزب الله” أن يُدرِكَ أن مشروعه الاستراتيجي بتحويل لبنان إلى دولة تابعة لإيران لن يجدَ النور لأنه ضد تاريخ البلد ولا يراعي مصالح أو رضا على الأقل 60 في المئة من اللبنانيين، لذا وجب عليه التطلع إلى تسوية مع الجميع أساسها عدم هيمنة طائفة على أخرى واحترام سلطة الدولة بتسليم سلاحه وفق استراتيجية دفاعية يرضى عنها الكل، وإلّا فالحرب الأهلية ستكون على الأبواب.

التسوية هي ما يسمح لإسبانيا بالاستمرار في المطالبة بصخرة جبل طارق وللفلبين بجزء من “صباح” في جزيرة بورنيو؛ وللمملكة المتحدة وماليزيا، على التوالي، برفض كل الادعاءات والحفاظ على الوضع الراهن. وقد سمحت التسوية لفترة طويلة (حتى التعديل الدستوري في العام 1999) لجمهورية إيرلندا بالمطالبة بالجزيرة بأكملها باعتبارها “أراضيها الوطنية”، مع القبول بأن إيرلندا الشمالية كانت بحكم الواقع جُزءاً من المملكة المتحدة.

تُقلّل التسوية من المواجهة وتُخفّض مخاطر الاشتباكات العنيفة. غيابُها يؤدّي إلى الحزبية المُفرِطة واختفاء أي أرضية مشتركة. يمكننا فعل الكثير منها اليوم، وكَلّا، هذا ليس اعترافاً بالهزيمة. من الأفضل رؤيتها كما فعل رجل الدولة البريطاني في القرن الثامن عشر إدموند بيرك: “كل الحكومات، وفي الواقع، كل منفعة بشرية ومتعة، كل فضيلة، وكل عمل حكيم، تقوم على التسوية والمُقايضة”.

فهل يسمع “حزب الله” وأهل السلطة والنخبة في لبنان؟

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى