الحَربُ العالَمِيّة المُقَنَّعَة!

محمد قواص*

تحدَّثَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرًا عن أهمّية أوكرانيا في تاريخ روسيا. عشية “العملية العسكرية” أسهَبَ في خطابِهِ في شرح روابط بلاده بالبلد الجار. ذهب إلى اعتبار أوكرانيا مع بيلاروسيا من الأضلاع الثلاثة لـ”العائلة الروسية”.

كان بوتين في ذلك يسعى لدى الرأي العام الروسي إلى توفيرِ شرعيّةٍ تاريخيّة ثقافية لحملته الأوكرانية منذ معركة العام 2014 التي انتهت إلى ضمّ شبه جزيرة القرم، انتهاءً بالمعركة الحالية الحائرة في أهدافها بين كييف ولفيف من جهة وخيرسون وميكولايف وأوديسا وماريوبول من جهة ثانية.

التمرينُ الذي اعتمده بوتين يستندُ على مجالٍ جيوستراتيجي حيوي حدّده وفق التاريخ القيصري والسوفياتي لروسيا، واعتبره مُكتَسبًا مَنطِقِيًّا من حقّ موسكو استرجاعه متى أرادت. وفق ذلك، فإن القاعدة أن تكون البُلدان التي كانت جُزءًا من “الامبراطورية” أو تحت سطوتها أو مُتحالفة معها في الماضي من ضمن المجال الحيوي الروسي الراهن. وبهذا المعنى فإن خروج تلك الدول من ذلك المجال واعتناقها مذاهب السيادة والاستقلال هرطقة وجب إنهاؤها للعودة إلى “الصراط المستقيم”.

وليس غريبًا في هذا السياق أن يُكثِّفَ الرئيس الروسي في مقاربته للعالم الراهن من الغَرف من بطون التاريخ، وحتى الاستشهاد بعقائد سياسية لا تنتمي إلى هذه الأيام، وكأنه يشرح الحاضر بالاجتهاد في تفسير كُتُبٍ مقدسة.

وليس غريبًا أن بوتين لا يعترف بالتحوّلات الهائلة التي أصابت روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ويعتبرها خطيئة أُملِيَت من الخارج ووجب تصحيحها. علمًا أن انهيار روسيا السوفياتية لم يحصل إثر هزيمة عسكرية كتلك التي مُنيت بها دولٌ كبرى كاليابان وألمانيا مثلًا، بل لأسبابٍ سوفياتية مُعَقّدة مُتراكمة أنهت بمفاعيل الدومينو كل الهيكل الروسي السوفياتي وامتداداته داخل أوروبا الشرقية.

وطالما أننا نُشيرُ إلى مثالِ اليابان وألمانيا فإن النموذجين يُمثّلان حالتَين نافِرَتَين في الكيفية التي تتحوّل بها الاستحقاقات التاريخية الموجعة إلى فُرَص، تكاد تكون ضرورية ومطلوبة، لإعادة بعث حيوية جديدة، جعلت من البلدين في الازدهار والاستقرار والتنمية والقوة والنفوذ واجهات تُدرّس وأمثلة تُحتذى. ولأن البلدين خضعا لمُراجعاتٍ تاريخية من جهة وتغيّرٍ في أنظمة الحكم من جهة ثانية وقيود دستورية تحدّ من طبائعهما الإمبريالية من جهة ثالثة، فإن طوكيو وبرلين طوّرتا دينامية البلدين بالتصالح مع قواعد الحاضر مهما كانت قاسية، والنفور من نزعات الماضي مهما كانت مُغرية.

صحيحٌ أن روسيا أقامت نظامًا جديدًا على أنقاضِ نظامٍ مُندَثر، لكنها استعانت داخل ما هو جديد بالأدوات والمؤسسات والشخصيات التي كانت في الأمن والعسكر والأعمال والسياسة جُزءًا أصيلًا من المنظومة السوفياتية الزائلة. لا بل أن في الأدبيات التي تنهل منها البوتيتية ما يعود إلى غابر زمان ميثولوجي سابق عل القيصرية والسوفياتية.

وعلى هذا فإن فهم روسيا للعالم لم يتطوّر على منوال ما حدث في ألمانيا واليابان. والظاهر أيضًا أن هذا الفهم لم يخضع لأيِّ تحديثٍ نوعي وجديّ كذلك الذي أخضعت الصين مثلًا نفسها له. والحال أن روسيا ما زالت مؤمنة أن حقوقها التاريخية وأدواتها الماضوية ما زالت ناجعة لقهر هذا الزمن وفَرض واقعها، بغضّ النظر عن الحتمية الاقتصادية لا العسكرية فقط في هذه الأيام لفرض أي تلاعبٍ بموازين القوى الإقليمية والدولية.

والأرجح أن بوتين اتَّكَأ في حملته الحالية في أوكرانيا على مُسلّمة استنتج قبل أعوام أن العالم أيضًا يُسلِّمُ بها، مفادها أن أوكرانيا، وقبلها جورجيا ومولدوفيا، هي “محظيات” قيصرية ومجال روسيا الذي من المنطق أن تناور وتناوش داخله. لكن ما حصل هو أن أوكرانيا التي يعتبرها بوتين مهمة جدًا في خطابه الداخلي والخارجي هي أيضًا، وربما باتت، مهمة جدًا بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة والمنظومة الغربية برمّتها. وعليه فإن تصادم ما هو مُتَحَجِّر في التاريخ مع ما هو مُتَحَوِّل في الحاضر قاد إلى هذه “الحرب العالمية” المُقَنّعة التي ما كان محسوبًا لها أن تقع.

ليس محسومًا ما إذا كانت الرواية الروسية بحواشيها التاريخية الدينية الثقافية الإيديولوجية ستفشل في خواتيمها، وهذا الذي ما زال الرئيس الروسي يتوسّل تجنّبه بالتعويل على حسمٍ عسكريٍّ ما يفرض بالقوة أمرًا واقعًا ما يُعيدُ أوكرانيا، بشكلٍ أو بآخر إلى وصاية الأمبراطورية المُتَخَيَّلة.

بالمقابل ليس محسومًا ما إذا كان الغرب في “اكتشاف” أوكرانيا سيحافظ على متانة ووحدة وانسجام، وسيستطيع التصدّي لقواعد اللعبة التي يريدها زعيم الكرملين. لكن ما هو محسوم أن اللغة المُنتَهَجة من الجانبين تشي بصراعِ إراداتٍ لا يَعِدُ بتسوياتٍ أو بمخارج في المدى المنظور.

ولئن تظهر ازدواجية المعايير بشكلها الفاضح في معاملة الغرب للحالة الأوكرانية مُقارنةً بحالاتٍ أخرى في العالم وحتى بحالة جورجيا والقرم قبل ذلك، فإن جلافة الأمر تُعبّر عن مساس بوتين بالمعيار الأساس الذي قامت عليه المنظومة الغربية منذ انهيار جدار برلين، بما أعاد استثارةَ عصبيةٍ غربية ضد هذا الماضي الذي تمّ إغلاق ملفاته في ما نتج عن الحرب العالمية الثانية أوّلًا وفي ما نتج عن اندثار العالم الشيوعي ودوائره منذ أن أغلقت موسكو هذه الحقبة بعد ميخائيل غورباتشيف ثانيًا. والأمر من الجسامة بحيث تسقط من أجله معايير ومُحرّمات وقواعد، للمفارقة، من قبل أطراف الصراع جميعًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى