الـدولة… لـصْقًا
رشيد درباس*
يا لها دولةً تُعاقَبُ فيها
كالـجُناةِ العُقولُ والأذهانُ
بدوي الجبل
يدعوني الارتجاج القضائي المُقلق إلى محاولة تفسير بعض الظواهر التي تستفحلُ وتتمادى، مُنذرةً بِزَجِّ القضاء في دَوَّامة الصراعات القائمة، حتى ليوشك أن يبدوَ طائفةً جديدة تبحث عن”حقوقها” تحت ركام الدولة ورماد الحرائق والانفجارات، ومن خلال الزعاق والضجيج القانوني، فيما القانون علم خطير عميق، لا يطيب له مقام بين أوتار الحناجر الصاخبة، أو على ألسنة أدعيائه.
ولقد صار مُملًّا جدًّا، في أعقاب كل حدثٍ خطيرٍ أو جريمةٍ كبيرة، أن ينبري الساسة المُبجّلون المُدجَّجون بأسباب التنصّل، طالبين الاحتكام إلى قضاءٍ جَوَّفُوه بتدخّلاتهم ونخروه بنزواتهم، وعطَّلوه بإجراءاتهم، وهم عارفون يقينًا أن القضاة الذين أفقروهم، وشوَّهوا أحكامهم، وصَدَّعوا بُنْيَتَهُمْ، وازْدَرَوْا بأقواسهم، وحرموهم حتى من أوراق المحاضر، وشرّدوا تشكيلاتهم، واستتبعوا من هو قابل للاستتباع، وحرّضوا مرؤوسيهم على الرؤساء… لن يكونوا سوى مشاجِبَ تُشْنَقُ عليها الحقيقة.
من علامات الفوضى القضائية كثرة اللجوء إلى الإبلاغ “لَصْقًا”، وهذا يحتملُ تفسيرين لا ثالث لهما: الأوّل أن السلطات عجزت عن الوصول إلى المطلوب إبلاغه، رُغمَ أنه معروف محل الإقامة، يتجوّل بصورة علنية، فمذكراتها إذًا، على وجاهتها، افتراضية غير قابلة للتنفيذ. والثاني أن اللصقَ يعني إلصاق التهم في زمن الكيد السياسي الذي لا يتورّع عن ترويضِ القضاء ليكون مَطِيَّةً لتصفية الحسابات. وعلى هذا، فكلّما قرأتُ كلمة “لصْقًا” تَحَسَّسْتُ مفاصلي اطمئنانًا إلى أنها ما زالت متلاصقة بعضها ببعض، فاللَّصق المُفرِط، يوازي القوة المُفرطة والضعف المُفرط في آن.
لَصْقًا تم إعلان دولة لبنان الكبير منذ قرن من الزمان على أدراج السراي، بأمر من “الجنرال غورو” وَقَبُولٍ من رجالات دين ودنيا، فكان ذلك لَصْقًا حميدًاً وصِحِّيًّا، ولو انطوى على تركيب أطرافٍ لازمة لاستكمال هيئة الدولة، ذلك أن التضاريسَ اسْتَطْرَقَهَا مَرُّ الدهور حتى تآلفت، فتعاقد الثلج الذائب مع خصب السهول، وتَراسَلَ البحرُ مع خضرة الزيتون المبارك الذي يكاد زيته يضيء وإن لم تمسَسْهُ نار، وانحنت الجبال العاصيةُ على طواعية الوديان حتى انسربت الأنهار إلى مستقرها، فإذا كلُّها في تكامل مصالح وتنوّع عيش، كما الفصول التي تتبادل التَّسَلُّمَ والتَّسْليم بهدوء وفق قانون الطبيعة، فيما يُمعنُ القَيِّمُون على أمورنا في الطبيعة السياسية تخريبًا، فلا يَسْتَسْلَمون لواجب التسليم إلّا متى كان الـمُتَسَّلِّم من أهل النَسَب والحَسَب.
هذه الدولة التي أُعلَنَتْ لَصْقًا، اندمجت أعضاؤها وتساوقت في وظائف مُتعدّدة يحتاج الجسم إليها كلِّها، فعبثًا يحاول من ينفض الغبار عن حدود الأقضية الأربعة، ليردّها إلى أهلها، مُتَوَهِّمـًا أنه عائد إلى صفاء عرقه ونقاء هوائه وأصيل أرومته، فيما دَعْوَتُه هذه ليست سوى إنكارٍ لما فعله البطريرك الياس الحويك صاحب الرؤية وعرَّاب الدولة؛ وهذا يستدرجني إلى التأكيد على أن الكلام على المارونية السياسية يحتاج إلى تفنيد، لأنها لا تُقْرَأُ على حدةٍ خارج سياقِها الجغرافي والتاريخي والاجتماعي، فهي جُزءٌ محوري من حركة مُتنافسة متنوعة، اختلط فيها الحابل المسيحي بالنابل الإسلامي، فأنتجا معًا استقطابات متعددة، كالكتلوي والدستوري، والنهج والحلف، من غير إهمال الحركات اليسارية والقومية التي تنوَّعَ أداؤها ما بين رافض للنظام وَمُنْضَوٍ تحت عباءات أطراف الصراع.
لكن علينا الاعتراف بأن عطبًا جوهريًّا أصاب الدولة المستقلة بعد كارثة فلسطين التي ترتّب عليها لجوءٌ أثَّر في بنيتها الديموغرافية، وأدّى إلى نزوع نحو الانخراط في مشاريع تتخطّى الحدود، من أجل استرداد الأرض السليبة، حتى وقع لبنان في تجاذب خطير حاول الرئيس فؤاد شهاب أن يضع له ضوابط، سرعان ما اختلَّت بعد هزيمة العام 1967، وتَدَفُّقِ المقاتلين الفلسطينين إلى لبنان، فكان ذلك إيذانًا بأخطر عطب بنيوي، ألا وهو ازدواجية السلطة التي تناسلت وتنوّعت وتعاقبت ما بين ثورةٍ فلسطينية واحتلال إسرائيلي وتدخّلٍ أجنبي ووجود سوري استطاع أن يُحَوِّلَ مَقَرَّ الحكم الفعلي إلى المقيم في عنجر بصفته الوالي المُعيَّن من الشام. ولم يكن الخروج السوري نهاية تلك الازدواجية، فقد استطاع “حزب الله”، مُتَّكِئًا على تحرير الأرض، أن يتولّى دور اللاعب الناظم لآلة الحكم، بالانخراط بداية في الحلف الرباعي الذي مَكَّنَ حركة “14 آذار” من حيازة أكثرية نيابية نظرية، تناقصت بالاغتيالات ثم شُلَّت حركتها بحجز نوابها في الفنادق أو الملاجئ الآمنة، إلى أن وقعت أحداث السابع من أيار/مايو فكانت إعلانًا صريحًا عن الدولة المستترة المزودة بأسباب التفوّق والغلبة على الدولة الظاهرة.
لقد حاول الأطراف كُلُّهُمْ التَّكَيُّفَ مع هذه الازدواجية بوسائل متعددة، بدأت بمار مخايل، واسْتَمَرَّت بنظرية “ربط النزاع”، ثم حَطَّتْ رِحَالَها باستجابة معظم الأطراف لإملاءاتها، بانتخاب الرئيس ميشال عون تحت ستار من وثائق واتفاقات لم تزل آثار حبرها بادية على الشفاه الشرهة والأقلام الفاشلة التي كتبتها. الآن استفحل الوضع، فبرز المسْتتِرُ وتَخَّفى الظاهر، ورحنا نقرأ مصيرنا من خطاب الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، لا من رسائل القصر الجمهوري المسبوقة بالعلم والنشيد، والمختومة بنشيد حزين وعلم مُتَهدِّل….
الآن أيضًا بدأنا ندفع ثمن انكفاءِ الدولة الدستورية أمام علنية دولة الأمر الواقع، سَحْبًا للسفراء ومقاطعةً للصادرات وإحْكامًا للحصار، وانهيارًا للعملة، وإفقارًا لا يُرى له قعر.
والآن أيضًا وأيضًا، وجب علينا أن نخرج من التمويه والكلام المُنمَّق المُنادي بالتكيّف مع الظروف أو الذهاب إلى الانفصال من خلال الدعوة الفيدرالية الناشطة، وذلك بالتصدّي المباشر لمسألة الازدواجية عبر الحوار الصريح وطرح الأمور بالوضوح الكلي، إذ من حق اللبنانيين جميعًا أن تكون دولتهم منصرفة إلى رعاية مصالحهم، لا أن تتحوّل إلى منبرٍ مجاني، يعتليه الخطباء فيستجلبون الضرر علينا من غير أن يجلبوا لأنفسهم أية منفعة. فلست أدري ما الذي أغرى إعلاميًّا مخضرمًا لم ينغمس في البرامج السياسية قبلاً، بالتوطئة لدخوله الحكومة بتلك المقابلة التي تشبه الكمين؟ كما لستُ أدري كيف أمكن السلطةَ أن تقف عاجزة حيال هذا الوضع الخطير، لولا هذه الازدواجية التي تشلها عن الحركة.
قد تنشأُ الدُّوَلُ وتكبرُ وتصغرُ بلصقِ مساحاتٍ جغرافية أو بفصلِها. هكذا علّمنا التاريخ. أما أن يصبحَ الحكم في أي دولةٍ التصاقًا مزدوجًا بين سلطتين خافيةٍ وبادية، فذلك أدعى لأن تُبلَّغَ هذه الدولة لصقًا، للارتيابِ المشروع في محلِّ إقامتِها الفعلي، بانتظارِ أن تُعلَّقَ ورقةُ نعيِّها لصقًا على لوحة إعلانات الأمم.
- رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).