بيتهوفِن القَدَر القاسي: يؤَلِّفُ الروائع ولا يَسمعُها (2 من 2)
هنري زغيب*
أَقسى ما يَصدُم المبدعَ أَن يَفقد حاسة إِبداعه: البصر للرسام، اللمس للنحَّات، السمع للموسيقي، النطق للشاعر، ففي الحاسة بوصلة المبدع وَوُجْهته إِلى الخُلود.
ماذا وراء صمَم بيتهوڤِن؟
كان بيتهوڤِن في ربيعه الثامن والعشرين حين بدأَ يفْقد حاسَّة السمع، وفي ربيعه الرابع والأَربعين حين فَقَد سمعه كلِّيًّا، بسبب ضغْط الشريان الثامن في الجمجمة وولادة جرثومة ضربَت عظْم الرأْس، فبدأَ التشَوُّه يظهر في عَرض رأْسه وانتفاخ جبينه واتساع فَكِّه ونُتُوء ذقْنه، وهي مؤَشرات علْمية لجرثومة الْتهاب العظام وتَشَوُّه شكلها، ما سبَّب له إِعاقةً عن اعتمار قبَّعته وانتعال حذائه بسبب تمدُّد العظام والْتواءَاتها وتضخُّمها.
في تشخيصات أُخرى أَنَّ من أَسباب صمَمِه: تصلُّب الأُذُن الوُسطى، أَو تضخُّم في أَعصاب الدماغ سبَّب السفْلِس في الشرايين، أَو قد يكون السبب ناجمًا عن وُقُوعه مراتٍ أَرضًا وارتطام رأْسه بأَجسام صلبة قاسية، أَو عن كدَمات سبَّبها له والده حين كان يضربه بعنْفٍ شرِس.
جميع هذه الافتراضات كشفَها في ڤيينا يوم 27 آذار/مارس 1827 تشخيصُ البروفسور كارل روكيتانسكي (1804-1878) الخبير بتشريح الأَجسام المريضة. لاحظ بتشريحه الجثة جمجمةً مقوَّسة وتغَضُّنَ أَعصاب السمع وضمورَ الكبِد وتَلَيُّفَه. وكانت وفاة بيتهوڤِن ناجمة عن إِدمانه الكحولَ بعدما سبَّبَ له اليأْس انهيار أَعصابه وازديادَ صمَمه، والسمعُ أَكثر حواسه حاجة له. لكن حبه الموسيقى كان قوَّة عظمى حالت دون انتحاره. فأَعظمُ موسيقاه خرجَت من فكْر رجل لم يسمَع جمال موسيقاه.
اعترافات بيتهوڤِن
كان طبيعيًا أَن يُحدِثَ هذا الصمَم النهائي خلَلًا في شخصيته ويولِّد تصرفات عصبية أَقرَّ بها في تصاريح جمعها الكاتب أَلكسندر نجار في كتابه الفرنسي “اعترافات بيتهوڤِن” وكانت لي متعةُ ترجمته (دار “سائر المشرق” 2020). من اعترافاته تلك إِقرارُه بِكُرْه الناس. ففي رسالة إِلى شقيقَيه سنة 1802 شرح لهما كيف سبَّبَ له صمَمُه كُره الناس ونفورَهم منه. ومما جاء في تلك الرسالة: “يا مَن تَرَوْن إِلـيَّ حاقدًا عنيدًا كارهًا الناسَ وبِذا تعاملونني، كم أَنتم مُـجحفون! تجهلون الـخفِيَّ بـي وراءَ ما تَرَوْن. لا تدركون أَنَّ مرَضًا خبيثًا أَصابَني منذ ستِّ سنواتٍ زادَ من ضرَرِه أَطبَّاءُ جهَلة عالجوني. وسنةً بعد سنةٍ يَـــئِستُ من تَـحسُّن سَـمعي فقرَّرتُ الانعزالَ باكرًا والعيشَ في وِحدةٍ بعيدًا عن الناس…”.
هكذا هربَ إِلى الوحدة والانعزال والصمت، فانطوى على ذاته مُعانيًا من مزاجه المزعج الذي أَوقعه في مشاكل عدة، منها:
- فرارُ خادماتٍ كثيراتٍ من بيته هربًا من تَقَلُّباتِ طبعه وقسوةِ نَعته إِيَّاهنَ بـــ”مُشعوذاتٍ خبيثات”، واتهامِهِنَّ بسرقته مدفوعًا بشكُوكٍ غير مبرَّرَة.
- تنقُّلاته الكثيرة، وحيثما يسكُن يتحوَّلُ بيته مستودَعًا فوضويًّا للأَوراق والنوطات، ويطرُدُ منه زوَّارًا مزعجين و”أَطبَّاءَ جَهَلة”.
- كثرةُ إِدمانه الخمر، أَهرقَ كمّياتٍ منه في كُؤُوسٍ بلَّورية. لكنَّ الخمر لم يُنْسِه همومه بل حوَّلَه مُدْمِنًا نَزِقًا.
- مخاصمتُه جميعَ أَصدقائه، وشكوكه في مَن هادَنوه بأَنهم استغلاليون طُفَيليِّون.
- تحمُّلُ ناسخي مخطوطاته عواصفَ صواعقه حين كان يصعُب عليهم تفكيكُ الخربشات في نوطات موسيقاه.
- انصرافُ ناشري مؤَلَّفاته عنه منذ باع ذات يومٍ خمسةَ ناشرين معزوفةً واحدة. دافع عن ذلك بأَنْ “لستُ رجلَ أَعمال، ويدفعني التنافُس إِلى ذلك”. لكنها كانت حجَّة ضعيفة لم تُقْنِعْهم.
ويعترف: “صمَمي الذي أَصابني مذ كنتُ في السابعة والعشرين هو سببُ مِزاجيَ النَفُور. وكيف لا أَكونُ نَفورًا، والموسيقى شغَفي الأَقوى ومصدرُ رزقي الوحيد، وجاء يومٌ لم أَعُدْ فيه أَسمع جيِّدًا رهافةَ الآلات والأَصوات؟ يُهنِّـــئُــني الناس ولا أَسمع. يظنُّونني متكبِّرًا أَو فَظًّا حين أَستفهمُ وأَنا مُقَطَّبَ الجبين: “نعم؟ ماذا قُلتُم”؟
اضطرابات الصمَم
فقَدَ بيتهوڤِن ثقته بذاته. وأَخذ يتردَّد في العزف على الـﭙـيـانو أَمام الجمهور، ويَخشى قيادةَ الأُوركسترا كي لا يُهَـزَّأَ لِتَعَـثُّره وارتباكه.
في صالة المسرح كان يصيبُه الـهَمُّ ذاتُه فيجلس قريبًا من الممثلين على الخشبة كي يفهمَ من حركات شفاههم ما يقولون.
في الحفلات الـموسيقية كان يتظاهر بالإِنصات الطبيعيّ لكن إِعاقته البائسةَ تفضَحُه، فيحاولُ إِرهافَ الإِنصات والتركيزَ أَكثر، ويضع في أُذنيه مساميعَ مـختلفة، أَو قطنًا سميكًا كي يخفِّف من وقْع الطنين على سَـمعِه الضعيف، أَو يصلُ خشبةَ الـﭙـيانو بقضيبٍ خشبيٍّ بين أَسنانه كي تَصِلَه ذبذباتُ الصوت، أَو يَبتُرُ قاعدةَ الآلة كي يتحسَّسَ عزْفها من نبض الأَرض. وكان يستسلمُ إِلى مخاطبةِ مَن حَوله خطِّيًّا على دفاترَ خاصةٍ يكتب عليها مخاطِبوه كلماتِهم غيرَ الـمسموعة.
كلُّ ذلك لم ينفعْ في تخفيف مأْساته الداخلية. كان يحس أَنه يضمُّ في يده جَـمْعةَ ماءٍ تــتسلَّل بين أَصابعه وتَـختفي فيشعر، يائسًا، أَنَّ حاسةَ السـمع، أَداةَ عمله الأَغلى، تتسلَّل منه وتَـختفي، وأَنَّ صمَمه الـمتزايد ليس إِلى شفاء.
القدَرُ القاسي
أَمضى حياته يؤَلِّفُ الموسيقى، يُرقِّصُ النوطات، يُخَلِّد أَنغامًا وحركاتٍ موسيقيةً يُدوِّنها كي لا تتسلَّل منه. خَانَه الـﭙـيانو، وراح يتظاهر بشُرودٍ يُخفي به عجزه عن الاستجابة لـجمهورٍ يصفِّق له خلف ظهره ولا يَسمعُه، ما سبَّب مزاجه النَفُورَ وطبْعه النَزِق. مع ذلك تحدَّى يأْس الانهيار، وقرَّر أَن يتجاوزَ الصعوبات، فراح يواصل التأْليفَ طالـما يَبنيه في فكره ويَسمَعُه في داخله. واقتنَع بصوت داخلي يقول له: “لا تَعِش بعد اليوم إِلَّا لفنِّك. وَهْنُ حواسِّكَ حدَّ من أُفُقِكَ فاجعَلِ الـموسيقى أُفْقَكَ اللامـحدود”.
منذ تلك القناعة راح يتقدَّم ضدَّ اليأْس فضاعف التأْليف: سمفونياتٍ وسوناتاتٍ ورباعياتٍ وكونشرتُوَات. سنة 1806 وحدها وضعَ السمفونْيَا “الرابعة”، وصمَّمَ لـ”الخامسة” و”السادسة”، وأَنْـجزَ “كونشرتو الكمان والأُوركسترا”، وأَلَّفَ رابعَ “كونشرتو للـﭙـيانو والأُوركسترا”، وثلاثَ رباعياتٍ للوتريات، والسوناتا 23 التي سمَّاها “الشَغُوفة”، واستسلمَ إِلى قدره على مبدإِ “الانصياع-الإِذعان-الإِذعان”.
كان عليه أَن يَجني من عاهته حصادًا معنويًّا، فسقَط تحت قدَر العاهة وارتفع بحصادِه إِلى الخُلود.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.