عَدالة الذكرى

رشيد درباس*

أوّلُ ما يحضرُ في ذهني في هذه اللحظة،
هو همّي الدائم أن تعودَ مدينتي بيروت أُمًّا للشرائع كما هو لقبها،
وننجحُ كلبنانيين في إقامةِ دولةِ القانون.

نوّاف سلام، رئيس محكمة العدل الدولية

في الذكرى الثالثة لغياب جان عبيد، لا يزال المكانُ شاغرًا…

وبعد،

تَرَقَبَتْ أنظارُ العالم ما سيخرج عن “قصر السلام” في مدينة لاهاي من تدابير تمهيدية في الدعوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية. استغرقَ الأمرُ شهرًا وبعضَه ليخرج على التوالي خَبَران: قرارٌ واضحُ الدلالة بليغُ السبك عميقُ غورِ القانون، يُشَكّلُ قرينةً تُنبِئُ بما سيكون عليه القرار النهائي الآتي بعد استكمال التحقيق والمداولة والتدقيق، والخبر الثاني إعلان بشرى انتخاب الدكتور نوّاف سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدولية، مُتَبَوِّئًا بذلك المكانةَ التي تليق به كرمزٍ للعدالة في العالم، بعيدًا من سوق المُقايضة السياسية اللبنانية.

ولكن قد يسألُ سائل: ما الجدوى من القرارات القضائية الدولية، ومعظمها لا يُنَفَّذ، بل تستخفُّ به دولٌ كثيرة؟ فأجيب: إنَّ ما يصدر عن العدالة الدولية له قيمة إجرائية وعملية لا تقلُّ عن أهميته التاريخية المعنوية، فالدولُ التي تَصدُرُ بحقِّها الأحكام، تُوصَمُ في المحافل السياسية والمالية وفي مجال التجارة الدولية، بأنها لا تحترم القوانين ولا المعاهدات، وهذا ينطوي على أضرارٍ جسيمة إن لم تكن في الحاضر، ففي المستقبل والضمائر.

قبل هذا انتظر اللبنانيون سنوات كثيرة صدور قرار الإدانة في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري عن المحكمة الخاصة التي كان مقرّها “لاهاي” أيضًا، المدينة التي اكتسبت مهابتها وصدقيتها كمقرٍّ دائمٍ للعدالة الدولية، التي هي كلٌّ لا يتجزّأ، ومن آثارها أنَّ الناسَ غدًا في ذكرى الاستشهاد، سيحتفلون بالصلاة لروح رفيق الحريري، وقد علموا بتفاصيل المؤامرة وخطط الاغتيال والأشخاص المُنفّذين، وهذا بحدِّ ذاته تأكيدٌ على أنَّ الجريمة لا تفيد، وأنَّ الحركات السياسية قد تُصاب بنكسةٍ عند تغييب روّادها، لكنها سرعان ما تستعيد همّتها وتَجِدُ روّادًا آخرين يستأنفون مسيرتها.

وغدًا، قد يكونُ في ساحة الشهداء وبيت الوسط جَمعٌ غفيرٌ يُعبّرُ عن رغبةٍ في إعادة الإمساك بالزمام، بعد مرور عامين من التَّكَيُّف القلق مع الفراغ والعشوائية وفشل محاولات التسوية. وهذا يدعوني إلى الاستنتاج بأنَّ المسألة التي ستطرحُها المناسبة ليست مسألة مظلومية أو محاسبة على إخفاق المبادارت، بل هي محاولة تصدٍّ للظروف الراهنة الخطيرة التي لا يجوز التعاطي معها باللامبالاة أو الاستسلام لمجرياتها، لأنها ستكون بالغة التأثير على شكل الصيغة وطبيعة علاقاتها الداخلية والعربية والدولية.

ومن هذا المنظور، أتوقّعُ ألّا تكون ذكرى استشهاد رفيق الحريري، مناسبة لِطَيِّ صفحةٍ من تسعةِ عشر عامًا، امتلأت حتى فاضت الأسطر بكل ما دُوِّن فيها من نصوصٍ متشابكة ومتعثّرة، وما احتوته من أحداث وتردّدات زلزالية. بل هي مناسبة لفتحِ صفحةٍ جديدة تقوم على وضوح الرؤية والواقعية السياسية، والحزم حيث يجب الحزم، والمرونة التي تقتضيها الظروف، والكتابة بالقلم أنَّ سرَّ الدولة اللبنانية يكمن في تكاملها، واستعصائها على الدكتاتورية، وفي التزامها بالتسويات اللازمة،  والمعادلات العميقة التي حالت دون التحاقها بقائمة دول الاستبداد. لقد انخرط رفيق  الحريري في الحياة السياسية حين كان لبنان مُقَطَّعَ الأوصال، عاصمته فيدرالية متاريس، وفضاء ظلمة، وعملته الوطنية تترنَّح باتجاه التضخم، وميليشياته أقوى من جيشه المُنقَسم، ورُغمَ هذا راهنَ على ظروفٍ دولية وعربية مؤاتية، وأشهر سلاح العمران وترميم المؤسسات، فلمّا انقلبت الأحوال إلى رغبةٍ في إبقاء لبنان ساحة مفتوحة، جرى تغييبه من أجل إحباط مشروع الدولة الذي سار فيه قُدُمًا. لكن غالبية الشعب التي وَعت تمامًا مصلحتها في بقاء الدولة وتطويرها حاولت أن تحبط نتيجة الاغتيال، فأحرزت في هذا تقدّمًا استمرَّ إلى أن ذرَّت بقرونها البرامج الخاصة بمكوّنات حركة 14 آذار، فراحَ كلٌّ ينسج حلفه الخارجي، ويخاصم حليفه الداخلي، ويترك العنان للمواقف المجانية والمزاجية، فاستقال مَن استقال، وانعزل من انعزل، واعتزل الذي اعتزل. وتدحرجَ الوضعُ سريعًا إلى وراء، حتى أدركَنا زمنٌ هجين تشهد فيه بيروت حركة  مكوكية من وزراء خارجية الدول والسعاة والسفراء بالتزامن مع اللهيب المشتعل على الحدود، وفي ظلِّ تهديدٍ متواتر بعدوان إسرائيلي، وبينما نحن أسرى فشلٍ مُزمِن في انتخاب رئيس، مستسلمون إلى انقسامٍ يأخذ أشكالًا طائفية خطيرة تنقل الخلاف السياسي من صعيده الطبيعي إلى آخر مُنذر بتدمير الكيان تحت شعارات التخوين والطلاق والفيدرالية، والثقافتين المختلفتين، والديانتين المتناقضتين، وما إلى ذلك من ترهات مُضِلَّة، وصلت حد الجهر الوقح بما هو باطل ولو في المناجاة والسرائر، فضاع الصواب في محاولةٍ لطمس الحقيقة الأصلية بفتح حسابات فرعية لحقائق مزوَّرة تُصَوِّرُ اللبنانيين، كأنهم ورثة الحروب الصليبية أو بقايا سطوة السلطنة العثمانية أو حفدةُ الفتنة الكبرى في الإسلام.

وإذا كان “حزب الله” يربط وقف عملياته العسكرية بوقف الحرب في غزة، فإنَّ المواقف المُعترضة تتراوح بين الرصانة والرعونة، في مشهدٍ أشبه بالرقص فوق فوهة البركان المتحفّز. أما آنَ لنا أن ندرك أن مقاومة المقاتلين ودماء الشهداء لا تنتج مفاعيلها إلّا إذا كانت جُزءًا من مقاومة سائر اللبنانيين، وأنَّ كلَّ جهدٍ يُقدّمه المواطن مقاومة، وكلَّ كلمةٍ في مجال الوحدة والتضامن مقاومة.

وفي هذا الخضم، أرى من وجهةٍ، أحاول أن تكون محايدة، أنَّ استدراجَ الطائفة السنّية إلى اللاموقف أو إلى الالتحاق، أصبح يُشكّلُ خطرًا وطنيًّا، لأنها من الحقول الخصيبة لتأليف العناصر، وابتكار المعادلات، فهي الماضي الذي انخرط في لبنان الكبير وجعله مُمكنًا، وهي الحاضر الذي يتمسّك بالعروبة تحت شعار “لبنان أوّلًا”.

تشهدُ الشوارعُ إرهاصات احتفالات بعودة الرئيس سعد الحريري، ولسان الحال يقول “أنتَ سرُّ أبيك”، ولقد رحل الأب وبقي السرّ الذي لا يحتاج إلى المنجمين والعرّافين، فهو بسيط جدًّا، شفّافٌ يفضي إلى معنى واضح، مفاده أنَّ الدولة لا تُباع ولا تُؤجَّر ولا تُسترهَن، ولا تُقَسَّم، و”أن المسألة ليست عاطفة تجيش، وعلاجًا لأزمةٍ راهنة فحسب، بل هي خطط سياسية وتنظيم وإنماء، واحتكام إلى الديموقراطية، وتوازن دقيق يوائم بين المصالح الوطنية والقضية القومية، فقضية فلسطين هي حجم حضور الأمة في مسيرة العالم، ومخزون مشاعر يجب وضعه في مرجل الاندماج نحو التنمية والارتفاع إلى مستوى المشكلة الحضارية في العالم العربي” كما كتب الأستاذ عمر مسقاوي في مقالٍ نشره في العام 2006 وقال فيه أيضًا: “المناقشات العربية في قمة السلام في بيروت سنة 2002 كانت تتحدّث عن السلام، وهي تسمع خارج القاعة ضجيج جرافات إسرائيل تهدم البيوت وتُقيم المستوطنات“.

ما أشبه الليلةَ بالبارحة. إنهم يتحدثون اليوم في حلِّ الدولتين، بينما يجري إخلاء قطاع غزة من الحياة وأسبابها، بالتزامن مع تفشّي الاستيطان في الضفة الغربية، وتجريف حقول الجنوب ومحاولة فرض نمط على لبنان، يُؤَمِّنُ الحدود لدولة إسرائيل، وَيُصَدِّرُ النزاع والشقاق إلى داخل البنية الاجتماعية والوطنية اللبنانية، فالسلام الذي تتحدّث عنه إسرائيل ورعاتها هو من نمط “السلام الروماني” الذي يقوم على التدمير والإبادة؛ ولهذا أختم بالتنويه مرة أخرى بقرار محكمة العدل الدولية، وبتحية “الزنوجة” (la négritude)، أي التيار الذي أطلقه الأديب والسياسي المارتينيكي “إيميه سيزار” مع أول رئيس للسنغال الشاعر “ليوبولد سنغور”، وهو يعني أنَّ ما يُوَحِّد الناس ليس لونَ البشرة، بل ألوانُ القِيَم الكبرى التي تختزن المثالية في الحياة والتعطّش إلى التحرير. فمن هناك انبثق “نيلسون منديلا” مؤسّس الدولة التي هزمت الفصل العنصري، وذهبت إلى “لاهاي” بِبَشَراتٍ متعددة الألوان، لإدانة “الحضارة الصهيونية والتنديد ببياضها الفاقع”.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى