كَيفَ يُمكنُ لصُنّاعِ السياسةِ الغربيين الإستفادة من الشَتاتِ العربيِّ الجديد

فيما تنظر الدول العربية بشكل متزايد إلى الفاعلين الجدد في الشتات على أنهم تهديد، فقد يكون هؤلاء وسيلةً لحلّ بعض الصراعات والمشاكل في العالم العربي.

أحمد الجلبي: أجندة سياسية مُنغمِسة في الذات

الدكتورة نُهى أبو الدهب*

منذُ اندلاعِ الإنتفاضات العربية قبل عشر سنين، فرّ العديد من الأشخاص من البحرين ومصر وليبيا وسوريا واليمن ودول عربية أخرى، أو أُجبِروا على الفرار من بلدانهم الأصلية. إن التركيبة السكّانية لهذه الجاليات الجديدة مُتنَوِّعة وقوية، لكن صانعي السياسة في الغرب لم ينخرطوا أو يتعاملوا معها بشكلٍ كافٍ وكما يجب.

تشمل هذه الجاليات العربية الناشئة والناشطة سياسياً بعد العام 2011 سياسيين، وديبلوماسيين سابقين، وأكاديميين، ومُحامين ناشطين، ومهنيين في المجتمع المدني، وأطباء، وقضاة، وصحافيين، وفنانين. يُخطّط الكثيرون من هؤلاء المغتربين للعودة إلى ديارهم بمجرد أن يسمح لهم الوضع القيام بذلك بأمان. وهم يبذلون قدراً لا بأس به من الجهد لمحاولة التأثير وإبلاغ السياسات التي تؤثّر في دولهم الأصلية. وبينما يظل دور الدول محورياً في تسيير العلاقات الدولية، يجب على صانعي السياسات إيلاء المزيد من الاهتمام لهذه الجاليات العربية الجديدة والإستعانة بها واستخدامها في تحديد حلولٍ للنزاع المُسَلَّح ومشكلات الحُكم.

الأهم من ذلك، إنهم يُشكّلون جزءاً من مجتمع الشَتات الجديد بدلاً من الشتات الأكثر رسوخاً الذي تكون روابط أفراده بالدولة الأصلية بعيدة جداً. في حين أن العديد من أعضاء الشتات العربي الجديد هم من المثقّفين الشباب والمهنيين في المجتمع المدني، فإن العديد منهم هم أيضاً سياسيون ذوو خبرة ومحامون في مجال حقوق الإنسان، وكان عملهم هو السبب الأساس الذي أجبرهم على الفرار. كما إنهم يحتفظون بعلاقات قوية مع دولتهم الأصلية ولديهم إمكانية الوصول إلى صانعي السياسات في الدولة المُضيفة وصانعي السياسات الدوليين والمُنظّمات غير الحكومية ووسائل الإعلام؛ والمدّعين العامين لجرائم الحرب في أوروبا.

من جهتها، تنظر الدول العربية بشكلٍ مُتزايد إلى هؤلاء الفاعلين في الشتات الجديد على أنّهم تهديد. يُعَدُّ مقتل الصحافي السعودي في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي أحد الأمثلة العديدة من جميع أنحاء المنطقة العربية. لقد أوضحت نبيلة مكرم، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج، المدى الذي ستذهب إليه الحكومات الأخرى لتحذير مواطنيها في الخارج بشكلٍ يُنذِرُ بالسوء. خلال زيارةٍ لكندا في 2019، حذّرت مكرم من أن أيّ شخص ينتقد مصر في الخارج سوف “يُعاقَب” وأومأت بقطع رقبتها وهي تُدلي بهذه الملاحظة. في وقت سابق من هذا الشهر، صرّحت مكرم أن الباحثين المصريين في الخارج هم من أخطر شرائح الشَتات في البلاد، بحجة أنهم يستوردون أفكاراً تضرّ بمصر.

تشهد مثل هذه الأمثلة على التأثير الملحوظ الذي يُمارسه المهنيون في الشَتات الذين يُشاركون بنشاطٍ في القضايا المُتعلّقة بوطنهم الأصلي. فهم يتنقّلون وآمنون نسبياً مُقارنةً بزملائهم المواطنين في الوطن، على الرغم من المحاولات المتزايدة لقمعهم عبر الحدود الوطنية. وهم أيضاً يؤثرون في قضايا تتراوح من السعي وراء المساءلة عن الجرائم المُرتَكَبة في بلدانهم الأصلية، إلى توليد وتبادل الأفكار المُوجَّهة نحو السياسات للمساعدة على حلّ النزاع، ومكافحة القمع، وبناء السلام في الداخل.

يجب على ممارسي السياسة الخارجية بذل المزيد من الجهد للانخراط بشكلٍ منهجي مع هذه الجاليات العربية الجديدة. حتى الآن، كانت هذه المشاركة إلى حدّ كبير محدودة ولغرضٍ بالذات.

إن استراتيجيةً تُنشِئ مساحاتٍ آمنة للمشاركة المُستدامة ستسمح لمعرفة وخبرة هؤلاء الفاعلين في الشَتات الوصول وتوفير معلومات أفضل لصنع السياسات لمواجهة التحديات المُعَقَّدة التي تواجه المنطقة العربية. وهذا مُهمٌّ بشكلٍ خاص لأن دولاً عربية عدّة إمّا تُعاني من نزاعٍ مُسلّح وتجزئة وتفكك الدولة أو استبدادٍ مُتجدِّد.

ومع ذلك، يجب التعامل مع الجهات الفاعلة في الشَتات بعناية. قد يكون الاعتماد المُفرِط على أفراد مُعَيَّنين، وبخاصة النخبة السياسية المنفية التي كانت في الخارج لفترة طويلة، ضاراً. فبعضها إما بعيدٌ من الاتصال بالدولة الأم، في حين أن البعض الآخر لديه أجندة سياسية مُنغمِسة في الذات تنتقص من، بل وتتحدّى، الأهداف الأوسع لحل النزاعات وتحسين الحُكم. ومن الأمثلة على هؤلاء الأفراد أمثال نائب رئيس الوزراء العراقي السابق أحمد الجلبي، ونائب الرئيس العراقي السابق إياد علاوي، وحتى القائد العسكري الليبي خليفة حفتر. في حين أنهم بارعون في حشد الدعم من صانعي السياسة الغربيين، فإن شرعيتهم أصبحت موضع تساؤل فور وصولهم إلى موقع السلطة في الداخل.

ولكن هذا هو سبب أهمية المزيد – وليس تقليل – الانخراط مع الجاليات العربية الجديدة. وينطبق هذا بشكل خاص على الأكاديميين المغتربين والمتخصّصين في السياسات ومهنيي المجتمع المدني الذين يعملون في مجموعة متنوّعة من المجالات بما فيها الصحة العامة والتعليم والأمن وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب وبناء السلام. نظراً إلى أن الكثيرين منهم غادروا أو أُجبِروا على الفرار بعد تفكّك الانتفاضات العربية، فإن عملهم في الخارج هو امتدادُ للعمل الذي كانوا يقومون به من قبل. وهذا يُضفي مستوى مُعَيَّناً من الشرعية على هؤلاء الفاعلين المُغتربين الجدد مع مواطنيهم في الوطن. ومع ذلك، فكلّما طالت مدة بقائهم في الخارج، زادت فرص ضعف شرعيتهم المُتصوَّرة.

إن تقلّص الفضاء المدني في العديد من البلدان في جميع أنحاء المنطقة العربية، والتي شهدت سنّ قوانين بشكلٍ مهووس والتي تقيّد عمل المنظمات غير الحكومية وكذلك وجودها، أدّى إلى انتقالِ العديد من منظمات المجتمع المدني إلى خارج بلدانها الأصلية. كما أنشأ الكثيرون مراكز أبحاث ومنظمات مجتمع مدني جديدة في الخارج، حيث يقومون بتنسيق الجهود المُوجَّهة نحو تشكيل السياسات، وإنتاج المعرفة، والسعي إلى المساءلة.

هذه المجموعات من الشَتات العربي الجديد هي التي يجب على صانعي السياسة الأجانب العمل معها بشكل أكثر منهجية لصنع سياساتٍ مدروسة بشكل أفضل.

على سبيل المثال، في الوقت الذي تبوء الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في اليمن بالفشل، فقد حدّد يمنيون في الشَتات الجديد، وخصوصاً أولئك الذين فرّوا منذ العام 2014، مشروعَ حلٍّ اقترحوا فيه نهجاً للإنتقال السياسي من شأنه أن يضع بعناية الأسس لحُكمٍ يقوده اليمنيون.

أحد هذه المقترحات يدعو إلى إنشاء مجلس رئاسي بصلاحيات محدودة في اليمن. وسيُشرف مثل هذا المجلس على محادثات السلام ويُعَيِّن يمنيين في مناصب حكومية رفيعة المستوى، بما فيها منصب رئيس الوزراء. ويرى مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية أن هذا المجلس سيكون بمثابة “خطوة أولى في عمليةٍ تشتدُّ الحاجة إليها لإصلاح الحكم الشامل”.

لا شيء يمنع مثل هذا المجلس من ضم بعض اليمنيين الأكثر خبرة وذكاءً سياسياً من الشَتات الجديد. ومن المفارقات، في حين أن الحكومة اليمنية الحالية برئاسة عبد ربه منصور هادي تعمل من خارج اليمن -في الرياض- فإن الاستبدال المُحتَمَل لهذه الحكومة الضعيفة يُمكن أن يشمل جزئياً أولئك الذين أقاموا (عن غير قصد) خارج اليمن.

من جهةٍ ثانية، حقّق الشَتات السوري الجديد إنجازاتٍ كبيرة في مجال العدالة الانتقالية. بالإضافة إلى حركة التوثيق السورية القوية، قام محامون ناشطون في الشَتات السوري، إلى جانب ضحايا وأقارب الضحايا الذين أصبحوا لاجئين، ببناء ملفات عديدة لقضايا جنائية في دول أوروبية عدة تستهدف مسؤولين رفيعي المستوى في نظام الأسد. لقد فعلوا ذلك بالتعاون مع سوريين داخل سوريا وخارجها. هذه التطورات هي شهادة على قيمة التعاون الفعّال بين الخبراء من الشَتات الجديد الناشط وحلفائهم في المجتمع الدولي.

ومع ذلك، فإن إنتاج المعرفة من قبل المُثَقَّفين والمُمارسين ومُحَلِّلي السياسات العرب في بلدانهم الأصلية كما في الشتات غالباً ما يستمر تجاهله، بل وحتى رفضه، من قبل صانعي السياسات الدوليين. هناك حاجة إلى مزيد من الاهتمام للطرق الفعّالة للتعامل مع تجارب وخبرات هذه المجتمعات.

أخيراً، يتمثّل التحدّي الرئيس الذي يواجه الشَتات العربي الجديد في الاستقطاب الذي تُغذّيه وسائل التواصل الاجتماعي، والمعلومات المُضَلِّلة، والمراقبة العابرة للحدود من قبل الدولة الأم، والعديد من العوامل الأخرى. في محادثاتي مع اليمنيين والليبيين والمصريين الناشطين على وجه الخصوص، فإن عدم وجود مساحات آمنة كافية يُمكنهم من خلالها تبادل الأفكار بدون خوف من التداعيات يُشكّل عقبة رئيسة أمام التنسيق الفعّال والتعبئة.

يُمكن لصنّاع السياسة الأجانب، بل عليهم، أن يعملوا على إنشاء مساحات آمنة وإضعاف الامتداد العابر للحدود لوكالات أمن الدولة القمعية التي تستهدف مواطنيها في الخارج.

كما ذكرتُ في التقرير هذا، يجب أن يكون أعضاء الشَتات الجديد شركاءً أساسيين في تشكيل السياسات الدولية والمحلية التي تؤثر فيهم وعليهم، لا سيما أنهم يُشكّلون مَورِداً يُمكن الوصول إليه على الفور وقيِّماً لصانعي السياسات خلال الصراع، والفترات الانتقالية، وما بعد الصراع.

يُمكن القيام بذلك بثلاث طرق على الأقل. أولاً، يمكن لمكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية أن يُعيّن مسؤولاً للإتصال بالفاعلين العرب الرئيسيين في الشَتات الذين أُعيدَ توطينهم مؤقتاً في الولايات المتحدة. يجب أن تكون هناك جهودٌ مُتضافرة للبحث عن مُتخصّصين في المجتمع المدني يعملون في قطاعات مُتعدّدة ويُمكن ضمان سلامتهم خلال هذا النوع من المشاركة. اللغة والخبرة في المنطقة ستكونان حيويتين.

ثانياً، نظراً إلى أن أعضاء الشَتات العرب مُنتشرون ومتمركزون في مواقع مختلفة في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية ومنطقة الخليج وجنوب شرق آسيا، فإن الاستراتيجية الفعّالة ستكون تعيين مسؤولي اتصال في الشَتات عبر سفارات الولايات المتحدة الرئيسة في أجزاء أخرى من العالم. يتمثّل الدور الأساس لهؤلاء المسؤولين في إنشاء وتنمية شبكة من الفاعلين العرب الجدد في الشَتات ممَن لديهم المعرفة والخبرة اللازمة لإعلام صنع السياسات. عند القيام بذلك، سيكون صانعو السياسات قادرين على إبقاء أصابعهم على نبض تحوّل السياسة وعلى نهج الواقعية للسياسة التي يُمكن أن تُولّد النتائج المرجوة.

أخيراً، مع استمرار مؤسسات الفكر والرأي في ممارسة نفوذها في مجال صنع السياسات، يجب أن يبذلوا جهوداً واعية لتوفير المزيد من المنصّات للفاعلين العرب الجدد في الشَتات لمشاركة أفكارهم حول قضايا السياسة المُلحّة التي تواجه دولهم الأصلية والمنطقة الأوسع. يجب أن تتضمّن مثل هذه المنصّات كلاً من مساحات المشاركة العامة والسرية، والتي من شأنها تشجيع أولئك الذين يتخوّفون من “الذراع الطويلة للدولة العربية” على المشاركة. ومن شأن الإنخراط الاستراتيجي مع جاليات عربية جديدة بهذه الطريقة أن ينوّع ويُعزّز الحلول السياسية المُتاحة للمُمارسين.

  • الدكتورة نهى أبو الدهب هي زميلة غير مُقيمة في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكينغز، وزميلة في مركز بروكينغز الدوحة. تُدرّس القانون الدولي العام كأستاذة مساعدة في جامعة جورجتاون في قطر. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @NohaAboueldahab

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى