لن يعودَ أحدٌ، بل الباقونَ سيَرحلون

سجعان قزي*

منذ عشرِ سنين ولبنانُ بين روسيا التي تَمتلِكُ استراتيجيّةً ثابتةً ويَصعُبُ على لبنان السيرُ فيها، وبين الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة التي تُعْوِزُها استراتيجيّةٌ مرحليّةٌ، ورغمَ ذلك يَتعذَّرُ على لبنانَ إهمالُـها. وحين استعادَ لبنانُ الرهانَ على فرنسا وَجدَها تائهةً في علاقاتِها اللبنانيّةِ والشرق أوسطيّة. نيّةُ رئيسِها جيّدةٌ وأداءُ إدارتِـها باهِتْ. سياسةُ رئيسِها يمينيّةٌ وسياسةُ مستشاريه يساريّة. وكان الارتطامُ العظيمُ لمبادرتِها، بل لدورِها.

صعوبةُ السيرِ في الاستراتيجيّةِ الروسيّةِ تعود إلى خَطرِ أن تَجعلَ روسيا لبنانَ امتدادًا لوجودِها في سوريا فتَتسلَّلَ سوريا معها إلى ديارِنا، وإلى عجزِها عن مساعدةِ لبنان بما يحتاجُه اقتصاديًّا وماليًّا. أما تعذّرُ إهمالِ أميركا فيعودُ إلى أنّها أميركا، إلى تَجذُّرِ دورِها في لبنان عبر دعمِ الجيشِ اللبنانيّ، إلى المساعدةِ في ضَبطِ النزاعِ مع إسرائيل وصولًا إلى تسويتِه، وإلى كونِها المرجِعيّةَ الكبرى في الشرقِ الأوسَط والعالم…

غيرَ أنَّ لبنانَ قادرٌ على الحصولِ على دعمِ أميركا وروسيا وفرنسا وغيرِها في حالِ عَرَفت دولتُه التعاطي بذَكاءٍ مع هذه الدولِ على أساسِ استراتيجيّةٍ واضحةٍ تُحدِّدُ مصالحَ لبنان. طَوالَ تاريخِ لبنانَ الحديث، لم يَحدُث أن سَعَت دولةٌ إلى الاستفرادِ بلبنان ومنعِه من إقامةِ علاقاتٍ خاصّةٍ مع غيرِها. حتّى سوريا، حين كانت موجودةً عسكريًّا في لبنان، تَقبَّلت انفتاحَه على المجتمعَين العربيِّ والدُوَليِّ واستفادَت منه. لكنَّ الدولةَ اللبنانيّةَ هي من أخَفقَت اليومَ في إقامةِ علاقاتٍ جيّدةٍ مع مجموعةِ دولٍ وحتّى مع دولةٍ واحدة.

في هذا السياق، ليس صحيحًا أنَّ العالمَ تخلّى عن لبنان، وأن قضيّتَه سَقطَت من أولويّةِ اهتمامات الدول. الصحيحُ أنّنا نحن تَخلّينا عن أنفسِنا ووَضَعنا قضايا الآخَرين قبلَ قضيّة لبنان، وهذه خيانةٌ موْصوفة. فها البابا فرنسيس يُثير قضيّةَ لبنان في كلِّ رسالةٍ واجتماعٍ ويَنوي زيارتَه، وها يأتي بيروتَ في شهرٍ واحدٍ وزيرا خارجيّةِ فرنسا ومِصر، ونائبُ وزير الخارجيّةِ الأميركيِّ، والأمينُ العامُّ المساعدِ لجامعةِ الدولِ العربيّة، وكبيرُ مستشاري الدفاعِ البريطانيُّ، وقائدُ القوّات الأميركيّةِ في الشرقِ، وغيرُهم… وها روسيا تَستقبلُ “خيرةَ القوم”.

أكثرَ من مرّةٍ، قُدِّرَ للبنانَ من الثمانيناتِ إلى اليوم، أن يَلعبَ دورًا استثنائيًّا في حركةِ العَلاقاتِ الدوليّةِ وفي السلامِ الإقليميّ. لكنَّ حكّامَه أساؤوا الأداءَ الديبلوماسيَّ وخَلَطوا عَلاقات لبنان الدوليّةَ بعَلاقاتِهم السياسيّةِ الداخليّة. جَبَنوا وتَذاكَوا. كان لبنانُ قادرًا أنْ يحوّلَ شعارَ “لا شرقَ ولا غرب” إلى “الشرقِ والغربِ معًا” في خِدمةِ لبنان. كان قادرًا أن يَصبِحَ هو مقرَّ مؤتمراتِ المصالحةِ والتسوياتِ بين الأنظمةِ العربيّةِ ومعارضيها عوضَ جنيف وڤيينا وأسِتانَة. هناك فارقٌ بين الحِيادِ والانعزال، وبين الانحيازِ والعَلاقات. لبنانُ اليومَ منعزلٌ من دونِ حِياد، ومنحازٌ من دونِ حلفاء. لم يَنجَح لبنانُ أن يُقيمَ عَلاقاتٍ إلّا مع مُحتلّيه، وأَخفَق في إقامتِها مع الّذين أتوا يُنقذونه.

يبدو لبنانُ في هذه اللحظاتِ الصعبةِ عاجزًا عن المشاركةِ في تقريرِ مصيرِه فكيف بمصيرِ المنطقة؟ غيّروا هوّيتَه ليُعدِّلوا دورَه، وأَسْقطوا مؤسّساتِه ليُعطّلوا قُدراتِه، وعطّلوا قُدراتِه ليَخطِفوه. دولتُه عاجزةٌ عن جمعِ مواطنَين فكيف بمصالحةِ دولِ المنطقة؟ هذا التَبعثُرُ العامُّ جعل اللبنانيّين يَقلَقون من تطوراتِ المِنطقة ومصالحاتِـها ويَخشَوْن أنْ تَتمَّ على حسابِ لبنان. وراحَت مجموعاتٌ تَبُثُّ الرعبَ والذُعرَ في الرأيِ العامّ. هذا منطقٌ انهزاميّ؛ ومن الانهزاميّةِ تبدأ الهزيمة، فأقْلِعوا عنه. لن يعودَ أحدٌ إلى لبنان، بل الباقون سيَرحَلون. وأيُّ مسارٍ آخَر من شأنِه أنْ يعلِّقَ هذه المرّةَ جِدّيًا دولةَ لبنان المركزيّة. للمُولَعين بالاحتلالِ والوصايةِ مناطقُهم ولعشّاقِ السيادة والحرّية مناطِقُهم. صنَعنا لبنانَ نموذجًا للحرّيةِ فلن نَدَعَه يصبحُ نموذجًا للاحتلال.

لو كان لبنان موحَّدًا لما كان اللبنانيّون يَتوجَّسون من التحوّلاتِ الجارية، عِلمًا أنَّ خفاياها قد لا تَعكِسُ مظاهرَها. المشهدُ الخارجي يَتركُ انطباعَ أنَّ النظامَ السوريَّ يَستعيدُ رونَقه وبشّارَ الأسد باقٍ في الرئاسةِ حتّى عشيّةِ القدَر، وأن النظامَّ الإيرانيَّ يَخرجُ تدريجًا من عُزلتِه ويَنتزعُ اعترافًا جَديدًا بطاقتِه النوويّةِ ودورِه المشرقي. ظنّي أنَّ ما يجري خلفَ الكواليس مختلِفٌ. فالتجديدُ لبشّار الأسد يُبقي سوريا مبعثَرةً ومحتلّةً وساحةَ حربٍ وعاجزةً عن لعبِ دورِها السابق في الـمِنطقة. والاتّفاقُ مع النظامِ الإيراني حول الـمَلفِّ النوويِّ لا يُلغي تراجعَ النفوذِ الإيرانيِّ في دولِ الـمِنطقة، ولا يَحجُبُ حربَ إسرائيل على إيران في سوريا، وتضييقَ روسيا على قوّاتِها، وسَعيَ النظامِ السوريِّ إلى الحدِّ من تَغلْغلِها في مؤسّساتِه.

رغمَ ذلك، لا يجوز أن يَتجَمّدَ اللبنانيّون في الماضي تجاه دولِ المنطقة، ويُمدِّدوا أعمارَ العداوات. العَداءُ مرحلةٌ في علاقاتِ الشعوبِ والأمم. لكنَّ تطويرَ مواقفِ اللبنانيّين يجب أن يلتزمَ المبادئَ الوطنيّةَ والسياديّةَ ويَستلِهمَ أرواحَ الشهداء، وأن يُقابِلَه تغييرٌ صادقٌ في مواقفِ دولِ المنطقة وسلوكِها تجاه لبنان.

على هذه الأسُس، لا يضيرُ لبنانَ أن يكونَ جُزءًا من حركةِ التقارب بين دولِ الـمِنطقة، لاسيّما مع سوريا وإيران. ولأنَّ نجاحَ التقاربِ يَستلزمُ حلَّ نقاطِ الخِلاف، نُطالب سوريا بما يلي: 1) الاعتذارُ عن ممارساتِ قوّاتِها ومخابراتِها في لبنان. 2) تسليمُ المطلوبين باغتيالِ رؤساءَ وشخصيّاتٍ لبنانيّة. 3) التفاهمُ مع لبنان على ترسيمِ الحدودِ والمساهمةُ في ضبطِها. 4) الكشفُ عن المعتقلين اللبنانيّين في سجونِها وإطلاقُ الأحياءِ منهم. 5) تقديمُ الوثائقِ المطلوبةِ حول مزارعِ شِبعا إلى الأممِ المتّحدة. 6) البَدءُ باستعادةِ النازحين السوريّين من لبنان، فكما يِعرف النظامُ السوريُّ تنظيمَ النازحين في طوابيرَ لينتخِبوا في لبنان، فليُنظِّم عودتَهم أيضًا.

أما تعزيزُ العَلاقاتِ مع إيران فيَتطلّبُ ما يلي: 1) احترامُ سيادةِ لبنان واستقلالِه ونمطِ حياةِ مجتمعِه. 2) الكفُّ عن ضَمِّه إلى مشروعِ الهِلال الشيعيّ. 3) وقفُ تسليحِ حزب الله على حسابِ الجيشِ اللبنانيِّ وتشجيعُه على وضعِ هذا السلاح في كنَفِ الدولة. 4) الامتناعُ عن اعتبارِ لبنان ساحةَ جهادٍ وجَبهةً عسكريّةً في وجهِ إسرائيل.

في هذا المقال خريطةُ السلامِ وخريطةُ الحرب، وطريقُ الوِحدةِ وطريقُ الفِراق. نتركُ للآخَرين الأولويّةَ في الاختيار. حين أُعطينا، نحنُ، هذا الحقَّ منذ مئةِ سنةٍ اخترنا الوِحدةَ والسلام.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على:   @AzziSejean
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب”- لندن، توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى