ميثاقُهُما الإنتحاري

مايكل يونغ*

يستمرُّ تدمير لبنان على يد قيادته السياسية حيث وصلت عملية تشكيل الحكومة، التي مضى عليها فعلياً ثمانية أشهر، إلى طريقٍ مسدود. في قلب المأزق توجد مُفارقة بين بطلين رئيسيين، جبران باسيل، رئيس حزب “التيار الوطني الحر” وصهر الرئيس اللبناني ميشال عون، وسعد الحريري، رئيس الوزراء المُكَلَّف.

في الأسبوع الفائت، قام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بزيارة بيروت وأبلغ السياسيين اللبنانيين، من الآن فصاعداً، بأنهم وحدهم. لأن المبادرة الفرنسية التي اقترحها الرئيس إيمانويل ماكرون في أيلول (سبتمبر) لإنعاش الاقتصاد اللبناني قد فشلت (وهي كلمة تجنّب لو دريان بشكل واضح استخدامها)، كان على القيادة السياسية في البلاد مواجهة العواقب. كان هناك شيء غريب في مثل هذا التحذير، لأن الشيء الوحيد الذي لم يفعله القادة اللبنانيون هو مواجهة عواقب لأسوإ أفعالهم.

ما نشهده اليوم هو التنافس بين شخصين خائفين من احتمال مواجهة الإقصاء السياسي قريباً. في حين أن الحريري وباسيل يعيشان هواجس ومخاوف وجودية، فإن ميشال عون، الرئيس العجوز وغير الحيوي الذي خان دوره الدستوري باعتباره تجسيداً للوحدة الوطنية، قد سمح للإثنين بمواصلة معركتهما المُدمِّرة. لكن المفارقة هي أن باسيل والحريري، من خلال الإستمرار في نزاعهما وجعل تشكيل حكومة جديدة مهمة شبه مستحيلة، يساعدان على ضمان زوالهما السياسي.

إن مشكلة الحريري الرئيسة هي أن المملكة العربية السعودية لا يبدو أنها تدعم عودته كرئيس للوزراء، الأمر الذي يُجبره على تشديد مقاربته لتشكيل حكومة جديدة والإثبات أنه يستحق حقاً دعم الرياض. في الآونة الأخيرة، نقلت صحيفة “الأخبار” الموالية ل”حزب الله” – نادراً ما تكون موضوعية، ولكنها غالباً ما تكون دقيقة في الأمور المُتعلّقة بالحريري- عن مسؤول عربي زار السعودية قوله إن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قال له: “نحن لا نثق بسعد الحريري كرئيسٍ للوزراء، الشخص الذي يُطمئننا ويُطمئن الأميركيين هو نواف سلام”، سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة وهو الآن قاض في محكمة العدل الدولية.

كانت هناك أيضاً تقارير في بيروت تُفيد بأن السعوديين أوضحوا للإيرانيين وجهة نظرهم المتوتّرة بشأن رئيس الوزراء المُكلَّف في حوارهم المستمر في العراق. لا شيء في الأسابيع الأخيرة يشير إلى أن المواقف السعودية قد تم تحريفها، بل على العكس تماماً. حتى التغيير الملحوظ في موقف فرنسا تجاه الحريري أخيراً يُشير إلى أنها تخلّت عن رئيس الوزراء المُكلَّف. قد يكون ماكرون قد اختار أن يتنازل عنه لصالحِ شخصٍ آخر، بعد أن استشعر أن مستقبل لبنان قد يتم تحديده قريباً من خلال التفاهمات السعودية-الإيرانية بشأن البلاد، وإدراكه أن السعوديين لن يدعموا الحريري.

مع علمه بكل هذا، تمسّك الحريري بمطالبه للحكومة -لا توجد سلطة مانعة (ثلث معطّل) لأيٍّ من الأحزاب فيها، لأن مَن يُسيطر على أكثر من ثلث الوزراء يُمكنه أن يفرض أجندة الحكومة بشكل فعّال. وعدم تسليم وزارتي الداخلية والعدل لباسيل وعون كما طالبا. يدرك الحريري أنه ما لم يحصل على شروطه فلن يكون قادراً على إدارة حكومته. مثل هذه النتيجة لن تؤدي إلّا إلى زيادة استياء السعودية منه، مؤكداً أنها كانت على حق في عدم رغبتها في أن يكون رئيساً للوزراء.

ومع ذلك، فإن عناد الحريري يجعل عدم تشكيل الحكومة أكثر احتمالاً، ويؤدي فقط إلى تفاقم وضعه. إذا فشل في أن يصبح رئيساً للوزراء، فسوف يُرضي عن غير قصد رغبات السعودية ويظهر أنه غير قادر على المناورة على باسيل وعون. ومن شأن ذلك أن يُسرِّع من انحداره إلى مكان غير ذي صلة سياسية ويمنعه من أن يكون المُنقذ الذي اقترح أنه يمكن أن يكون عندما أعلن لأول مرة عن ترشّحه لمنصب رئيس الوزراء في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

سوف يفرح باسيل إذا فشل الحريري في تشكيل الحكومة، لكنه في الواقع ليس في وضع أفضل من وضع رئيس الوزراء المُكلّف. بالنسبة إليه، فإن الحد الأدنى من الشروط التي سيقبلها في مجلس الوزراء هو أن يتمتّع الوزراء الذين يُسمّيهم بعرقلة السلطة، مما يسمح له بتحديد جدول الأعمال وإحباط أي قرارات تهدّد مصالحه. يشعر باسيل، ربما عن حق، أنه بدون هذه القوة، سيحاول الحريري وحلفاؤه تهميشه وعون.

إن أولوية باسيل المُطلقة هي خلافة عون كرئيسٍ للجمهورية. وهذا هو السبب في أن السيطرة على وزارة الداخلية ستسمح لمن يُعيّنه بالتلاعب بنتائج التصويت إذا لزم الأمر والتأكد من فوز مُرشَّحي باسيل في الانتخابات البرلمانية المُقرَّر إجراؤها في العام المقبل. ما لم يتمتع بتمثيل ذي مصداقية في البرلمان، فإن فُرص باسيل في أن يصبح رئيساً سوف تتضرّر بشكل كبير. أما وزارة العدل، فيأمل باسيل فتح قضايا فساد ضد سياسيين آخرين، الأمر الذي من شأنه أن يسمح له بتصوير نفسه على أنه مناضل صليبي ضد الفساد. سيكون هذا من المفارقات إلى حد كبير لأن العديد من اللبنانيين يعتقدون أنه يُجسّد الكسب غير المشروع والفساد.

لكن على باسيل أيضاً أن يواجه الواقع. إذا استمر في التمسّك بشدة بشروطه فلن يتم تشكيل حكومة وماذا سيحدث بعد ذلك؟ لن يكون باسيل قادراً على تشكيل الأحداث في العام المقبل قبل رحيل عون في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. فكيف يكون إذاً قادراً على تمهيد الطريق لرئاسته؟ والأسوأ من ذلك، أن الولايات المتحدة عاقبت باسيل، ويُعارضه الكثيرون من الطبقة السياسية، وكما تبدو الأمور اليوم، فإن فرصة انتخابه محدودة. لذا، كما هو الحال مع الحريري، قد يؤدي عناده إلى تقويض الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها.

السبيل الوحيد أمام باسيل للخروج من هذه المعضلة هو محاولة إجبار الحريري على التخلّي عن مهمة تشكيل الحكومة. يبدو أنه يعتقد أنه يستطيع أن يأتي ببديل أكثر مرونة، بديلٌ يناسب ظروفه وظروف عون. المشكلة الوحيدة هي أن مثل هذا التوقّع سخيف. قد لا يتمتّع الحريري ببركات محمد بن سلمان ورضاه، لكن السنّة اللبنانيين يقفون بقوة وراءه في رفض سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها باسيل وعون. في الواقع، إذا انسحب الحريري، فقد يرفض البرلمانيون السنّة الدخول في مشاورات مع عون لتعيين رئيس وزراء جديد. يُمكن لغياب الشرعية الطائفية أن يردع السنّة الموثوق بهم عن القبول للحلول مكان الحريري.

كما وردت أنباء عن أن رئيس مجلس النواب نبيه بري سيُعارض جهود عون وباسيل لتشكيل الحكومة التي يفضّلونها. ربما سرّب بري قصة كيف أبلغ “حزب الله” أنه سينضم إلى الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط والسياسي الماروني سليمان فرنجية في مقاطعة البرلمان لمنع ذلك. مثل هذه الخطوة من شأنها أن تمنع النصاب التشريعي الضروري للتصويت على الثقة في أي حكومة جديدة.

لقد مرّ عام ونصف العام على انهيار العملة اللبنانية، ما تسبّب في انتشار الفقر في بلد ليس لديه سوى شبكة أمان اجتماعي بدائية. في ذلك الوقت، لم تفعل القيادة السياسية شيئاً لتحسين الوضع، بينما كانت تتشاجر وتتناحر بلا انقطاع. من غير المقبول إرغام اللبنانيين على دفع ثمن باهظ بسبب طموحات سياسية وانعدام الأمان لدى الحريري وباسيل. النبأ السار هو أن كلاهما قد ينتحر سياسياً من خلال إيقاف كل شيء. النبأ السيئ هو أن الانتحارَين يجب ألّا يستغرقان وقتاً طويلاً.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى