“ربيع” بوتيتشيلِّي عذوبةُ الجمال الأُنثوي
هنري زغيب*
في بحثيَ الدائم عن الكلاسيكية في الفن، والكلاسيكيةُ أُمُّ العصورِ الراعيةُ وابنتُها الربيعيةُ، آنَس إِلى النهضة الإِيطالية التي منها شعَّ القسم الوافر من إِبداعات العصور الوسطى.
ومع أَول الربيع الذي بدأَت طلائعه منذ أَيامٍ تصحو عندنا مع غمزة كل شمسٍ صباحية، عدتُ إِلى لوحة ساندرو بوتيتْشِلّي الشهيرة “الربيع” (لا پريماڤيرا La Primavera) أَستقرئُ ما بثَّ فيها من نضارةٍ وحياة، فهي من قمم أَعماله، وما زالت حتى اليوم ترنو إِليها وإِلى قصتها عيونُ الزوَّار والنقَّاد والقرَّاء.
ما قصة اللوحة؟
رسمَها بوتيتْشِلِّي (1445-1510) تلبيةً لطلب لورنزو دي پيارفرنْتْشِسكو ميديتْشي (1449 – 1492) لمناسبة زواجه. وكانت فلورنسا في القرن الخامس عشر مركزًا أَولَ للفنون والاقتصاد إِبَّان حكْم آل ميديتْشي، رجال أَعمال ومصرفيين يملكون أَقوى مصرف في أُوروپا، حتى أَن دولة الڤاتيكان بين أَبرز زبائنه. بلغَت المدينة أَوج ازدهارها مع ولاية لورنزو (من 1469 حتى وفاته) وكان، مع الڤاتيكان، أَكثر من كلَّف بالرسم كبار عصره كميكالنجلو وليوناردو وبوتيتْشِلِّي.
جعل بوتيتْشِلِّي لوحة “الربيع” في حديقة مورقة، في وسْطها الإِلهة ڤينوس، فوقَها كيوپيد (إِله الشهوة) يستعد لإِطلاق سهمه عليها، عن يمينها حارسُ الحديقة مركور (عطارد) يطارد الغيوم السود بسيفه المتأَهّب. إلى جانبه النِعَمُ الثلاثُ (حوريات الإِيمان والأَمل والمحبة) يرقصن دائريًّا في حلقة. إِلى يسار ڤينوس، عند طرف القماشة، شاب أَزرق البشرة هو زِيفير (الهواء الغربي) يطارد الحورية كلوريس، ومعها فتاة أُخرى تنثُر بتلات الورد في أَرجاء الحديقة، هي فلورا التي تجسِّد رمز الربيع ينثُر نضارته في المكان.
ما الذي يجمع بين هؤُلاء الأَشخاص في اللوحة؟
ينبوع في قصيدة
يَجمع بينهم الشعر: ففي رائعة الشاعر اللاتيني أُوڤيد (43 ق.م. – 17م.) “الأعياد” (6 أَجزاء – نحو سنة 15م.) يشرح الشاعر أُصول الأَشهر الرومانية والأَعياد الدينية التي تواكب كلَّ شهر. وفي شهر أَيار روى أَن كلوريس هاجمها زِفير (الهواء الغربي) لكنه لاحقًا ندِمَ على فعْلتِه فَحَوَّل كلوريس إِلى فْلورا ومنحها حديقةً يكون فيها ربيعٌ دائم. واللافت في اللوحة أَنَّ المرأَتين لا تعرف إِحداهما الأُخرى، وأَنَّ الأَزهار الطالعة من فمِ كلوريس تتناثر على ثوب فلورا. وفي هذه الناحية من اللوحة نحو 500 نوع من نباتات منثورة بحذاقة، بينها 190 زهرة.
المجموعتان في اللوحة، عن يمين ڤينوس ويَسارها، نابعتان من الفلسفة النيو-أَفلاطونية (“الأَفلاطونية المحْدَثة”): تيَّار فلسفي شعبي ساد في فلورنسا عهدذاك، وتحديدًا في بلاط آل ميديتْشي. عقيدتُه تجمع بين فلسفة أَفلاطون والأَخلاقيات المسيحية، وفيها أَنَّ في الحب شهوتَين: الجسدية (يمثِّلها زِفير في اللوحة)، وتلك النقية المستحقَّة لقاءَ الإِله (تمثِّلها في اللوحة النِعَمُ الثلاث). وبهذه اللوحة قدَّم بوتيتْشِلِّي رائعةً خالدةً مدى العصور : لوحة الحب بشهْوَتَيه، والوعد الدائم بأَن الربيع سوف يجيْءُ أَيَّا تكْن قبْله قسْوة الشتاء.
ما وراء اللوحة
لوحة “الربيع” لا تقف شهرتها عند مضمونها وحسب، بل في ما وراءَها من وقائع. فهي تكليفٌ من متموِّل: المصرفي لورنزو دي پيارفرنشسكو، من أَسرة حكمَت فلورنسا طويلًا. ونجمةُ هذا الربيع (“ڤينوس”) هي سيمونيتَّا ڤِسْپُوتْشي أَجمل امرأَة في فلورنسا عهدذاك (1453-1476)، زوجة ماركو ڤِسْپُوتْشي، وقيل إِنها كانت عشيقة السياسي جوليانو ميديتْشي الذي اتخذه بوتيتْشِلِّي نموذجًا ليرسم الإِله القاسي مِركور (عطارد).
بهذه اللوحة وسواها تكرَّس بوتيتْشِلِّي فنانًا خالدًا من مدرسة فلورنسا التي رعى فنانيها لورنزو. وكان بوتيتْشِلِّي تلقَّى دراسة الرسم على كبار عصره، وتبناه لورنزو والبابا سكتوس الرابع الذي كلَّفه الرسم في قاعة “السكستين”، فرسم 3 جدرانيات كبرى: “تجربة يسوع على الجبل”، “عقاب الثوار”، و”تجربة موسى”.
وكان بوتيتْشِلِّي تأَثَّر عميقًا بالشاعر الإِيطالي الخالد دانتِه أَليغياري (1265-1321) و”الكوميديا الإِلهية” (1308 -1320) وأَمضى وقتًا طويلًا يرسم تفاصيل “الجحيم” مستوحيًا إِياه من قصيدة دانتِه.
مات على قدميها
لم يتزوج بوتيتْشِلِّي، بل كان يكره الزواج. أَمضى حياته عاشقًا سيمونيتَّا ڤِسْپُوتْشي، مستوحيًا وجهَها وجمالَها الساحر في عدد من لوحاته، ولأَجلها أَبدع في رسم النساء وجهًا وذراعَين وكتفَين وورعًا أَمام الجمال، وظل يستوحيها حتى بعد سنوات من وفاتها سنة 1476.
ومن شدَّة وَلَهِه بها، كتب في وصيته أَن يُدفَنَ عند قدميها، وهو ما تمَّ له عند وفاته: لم يتِمَّ له لقاؤُها في حياته، ربما أَمَلَ أَن يلتقيها فوق، في العالم العُلوي الذي كم رسَمَه في لوحاته.
هو الحبُّ، الرغبةُ الأَقوى والأَنضرُ والأَجملُ في مشوار الحياة، تكرِّسُه خالدًا عبر العصور ريشةُ فنان أَو قصيدةُ شاعر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.