لئلا ينعقدَ المؤتمرُ من دونِ لبنانيّين

بقلم سجعان قزي*

يكفي أن نُعاينَ تطوّرَ العلاقاتِ بين ممثّلي المُكوّناتِ اللبنانيّةِ لنُدرِكَ عدمَ جدوى عقدِ مؤتمرٍ لبنانيٍّ لحلِّ القضيّةِ اللبنانيّةِ، وضرورةَ عقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ خاصٍّ بلبنان: كان ممثّلو المكوّناتِ اللبنانيّةِ يجتمعون ويتّفقون ويُنفِّذون كلَّ ما اتّفقوا عليه. ثم صاروا يجتمعون ويتّفقون ويُنفِّذون جُزءًا مما اتّفقوا عليه. ثم باتوا يجتمعون ويتّفقون ولا ينفِّذون شيئًا مما اتّفقوا عليه. ثم أمْسَوا يَجتمعون ولا يتّفقون على شيء. إلى أن أصبحوا عاجزين حتّى عن الاجتماع. هذا نَموذجُ فشلِ الطبقةِ السياسيّة. قبلَ اغتيالِه (19 آب/أغسطس سنةَ 14 ميلادية) قال يوليوس قيصر: “وجدتُ روما حَصًى وتركتُها رُخامًا”. أما لبنانُ فوَجَدَتْه الطبقةُ السياسيّةُ رُخامًا وتَتركه حُطامًا.

إن كان هذا المسارُ السلبيُّ يكشِفُ تراجعَ مستوى المسؤوليّة، وتدنّي مستوى الطبقةِ السياسيّةِ، وتفاقمَ الصراعِ السياسيِّ الداخليِّ، فإنه يؤكّدُ عدمَ رَغبةِ مُمثّلي مُكوّناتٍ مُعيّنةٍ بالتفاهمِ على حلٍّ من خلالِ النظامِ القائمِ، والصيغةِ الميثاقيّةِ، والدولةِ الحاليّة. في لبنان، الوطنُ سَبقَ نشوءَ الدولة، والصيغةُ سَبقت كتابةَ النظام، والميثاقُ سَبقَ وضعَ الدستور. وبالتالي، ف”المكوّناتُ الطامحةُ” تَربُط ولاءَها للوطنِ بدورِها في الدولة، والتزامَها الصيغةَ بحِصّتِها في النظام، واحترامَها الميثاقَ بصلاحيّاتِـها في الدستور.

تلبيةُ هذه “الروابطِ ـــ الشروط” تؤدّي إلى مؤتمرٍ تأسيسيٍّ يَنتجُ عنه نظامُ هيمنةِ العددِ، أو نظامُ فيدراليّةِ الطوائف، أو دولتان دينيّتان على الأقل، وليس دولةً موحَّدةً لأنّها قائمةٌ دستوريًّا من دونِ عناءِ عقدِ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ جديد. ولأنَّ اللبنانيّين الآخَرين سيَرفضون نظامَ هيمنةِ العددِ وسيقاوِمونه، سيجِدون أنفسَهم أمامَ التسليمِ بالتقسيمِ، أو اللجوءِ إلى الفيدراليّةِ ضمانًا لما بقي من وِحدة.

تحاشيًّا الوقوعَ في هذه الحالاتِ الثلاث، وبخاصّةٍ في التقسيم، يبدو المؤتمرُ الدوليُّ، على صعوبتِه، خَشبةَ النجاةِ الأخيرةَ، لا للبنانَ عمومًا، بل لوِحدةِ لبنان تحديدًا. حين كانت المكوّناتُ اللبنانيّةُ مُختلِفةً على قضايا عاديّةٍ عَجِزت عن الاتّفاقِ في ما بينَها، فكيف الحالُ وخِلافُها اليومَ هو على قضايا مصيريّة؟ العجزُ عن الاجتماعِ هو اعترافٌ مُسبَقٌ بالعجزِ عن الاتّفاق. والعجزُ عن الاتّفاق ناتجٌ عن استحالةِ التوفيقِ بين المشروعِ اللبنانيِّ والمشاريعِ الغريبة.

لقد بلغَ الانقسامُ بين هذه المكوّناتِ اللبنانيّةِ حدًّا جعل بعضَها يَخجَلُ الكشفَ عن مَكنوناتِه، فيكتفي برفضِ الموجود من دونِ الجهْرِ بالمطلوب. نَسمع كلمةَ “نرفض” لا كلمةَ “نريد”. لذلك، إذا كان اللبنانيّون يَتمسّكون بعدُ بالوِحدة، فيحتاجون إلى تحكيمٍ دوليٍّ، أي إلى مؤتمرٍ دوليّ فقط. أما إذا كانوا يَستلطِفون الفيدراليّةَ أو التقسيمَ (والفيدراليّةُ ليست تقسيمًا)، فيحتاجون إلى مؤتمرٍ تأسيسيٍّ مُدعَّمٍ بمؤتمرٍ دوليّ، إذ مهما كان شكلُ الحلِّ فهو يَستلزمُ ضمانةً دوليّة. لا صِدقيّةَ للوعودِ الداخليّة. وما آلَ إليه “اتّفاقُ الطائف” وما سبقَه وما أعقَبه أكبرُ دليل.

من مصلحةِ ممثّلي المُكوّنات اللبنانيّة أن يتجاوبوا مع فكرةِ التدويل ــــ وهم في قلبِها ولا يُقِرّون ــــ لئلّا يَنعقدَ المؤتمرُ الخاصُّ بلبنان من دونِ لبنانّيين. فسقوطُ لبنان وتحوّلُه مساحةً سائبةً ودولةً فاشلةً بالمفهومِ الدولي، يُشكّل خطرًا على الأمنِ الإقليميِّ لاحقًا، ما يُضاعِفُ فرصَ تدويلِ القضيّةِ اللبنانيّة من دون طلبٍ لبنانيّ. وأصلًا، توجدُ إشكاليّةٌ في اختيارِ مَن يَمثِّلُ اللبنانيّين في المؤتمرِ الدوليّ. فلا مكانَ للسلطةِ الشرعيّةِ ما لم تَتغيّر أو تُغيّر خِياراتِها وسياستَها وأداءَها، ولا مكانَ للطبقةِ السياسيّةِ ما لم تُفرِز شخصيّاتٍ جديدةً، ولا مكانَ لجماعاتِ الثورةِ ما لم تتّحِد وتَنتقِ الأفضلَ من بينِها. وبالمقابل، لا الدولةُ ستُسهِّلُ انعقادَ المؤتمرِ بدونها، ولا الطبقةُ السياسيّةُ ستتغاضى عن تنحيتِها عن الحضور، ولا جماعاتُ الثورةِ ستَقبلُ أن تَتمثّلَ بالسلطةِ وبالطبقةِ السياسيّة، فالمؤتمرُ هو للأجيالِ الطالعةِ وليس للّذين أسقطوا لبنان.

أزمةُ التمثيل هذه تُشكّلُ عاملًا إضافيًّا لكي تُبادرَ الأممُ المتّحدةُ إلى عقدِ المؤتمرِ الدوليِّ الخاصِّ بلبنان بالتنسيق مع الدولِ الكبرى في مجلس الأمنِ قبل انتهاءِ عهدِ رئيسِ الجُمهوريّةِ ميشال عون فيكونَ قوّةَ الدفعِ الدوليّةَ لتأمينِ انتخابِ رئيسٍ جديد، إذ لا شيءَ يَضمَنُ حصولَ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ في ظلِّ الصراعاتِ الداخليّة. وتعطيلُ هذا الاستحقاقِ الكيانيِّ هذه المرّةَ هو خاتمةُ سقوطِ الدولة مع ما يعني ذلك من تحوّلاتٍ بنيويّةٍ مجهولة. غريبٌ أمرُ اللبنانيّين: مَن يرى اختلاطَهم ببعضِهم البعض لا يُصدّقُ أنّهم مختلفون، ومن يرى حالَ الدولةِ لا يُصدِّقُ أنها دولةُ هؤلاءِ اللبنانيّين.

إن المجتمعَ الدوليَّ يحتاجُ إلى إشاراتٍ قويّةٍ تعبِّرُ عن إرادة اللبنانيّين في إكمالِ مشوارِ الشراكةِ الكيانيّة معًا. إذ من شأنِ غياب هذه الإشارات ـــ إضافةً إلى إشكاليّةِ التمثيل ـــ أن يدفعَ الأممَ المتّحدةَ، مرّةً ثانية، إلى التفكيرِ بتشكيلِ لجنةٍ أمميّةٍ مُحايدةٍ لاستطلاعِ رأيِ اللبنانيّين مباشرةً بمصيرِهم، بوِحدتِهم وشراكتِهم مثلما حَصل سنةَ 1919، أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس، حين عيّن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لجنةَ “كينغ ــــ كراين” للوقوفِ على آراءِ أبناءِ سوريا ولبنان وفلسطين في مستقبلِ مناطقِهم وولاياتِهم. لربما يُفضِّلُ اللبنانيّون أن يعترفوا أمامَ الغرباء مِن أن يَعترفوا لبعضِهم البعض. مأساةٌ أن نهبُطَ إلى هذا الدَّرْك. وعيبٌ أن نُسألَ بعدَ مئةِ سنةٍ ما إذا كنّا نريدُ أن نَعيشَ معًا؟

الأحداثُ تتسارعُ وتأخذُ طابَعَ المواجهةِ في الـمِـنطقةِ ولبنان خلافًا لما كان متوقّعًا بعد انتخابِ جو بايدن. ظنَّ البعضُ أنَّ التطوراتِ رهنُ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأميركيّة، فإذا بها أيضًا رهنُ الانتخاباتِ النيابيّةِ الإسرائيليّةِ في 23 آذار/مارس الجاري، والرئاسيّةِ الإيرانيةِ في 18 حزيران/يونيو المقبل. فطهران لا تريد العودةَ إلى الاتّفاقِ النوويِّ قبل انتخاباتِها لكي لا تَصبَّ العودةُ في مصلحةِ الإصلاحيّين على حسابِ المتطرّفين القريبين من خامِنئي. لكنْ من الآن حتى حزيران، جميعُ الاحتمالاتِ واردةٌ، خصوصًا أنَّ بموازاةِ الصراعِ الأميركيِّ-الإيرانيّ، يَبرزُ صراعٌ أميركيٌّ-إسرائيليٌّ خطير. وإذا كان الصراعُ الأوّلُ وضعَ المنطقةَ في إطارِ التوتّرِ الأمني، فالصراعُ الأخيرُ قد يَضعها أمام احتمالِ الحرب.

لذا طرحُ البطريركِ بشارة الراعي الداعي إلى مؤتمرٍ دوليٍّ يُشكّل مِظلّةً واقيةً للبنان في زمنِ التحوّلاتِ السلميّةِ والعسكريّة، ورسالةً لِمَن يَعنيهم الأمرُ بأنَّ اللبنانيّين بدأوا يَسلُكون طريقَ العقلِ واختاروا مشروعَ الدولةِ وجدّدوا الإيمانَ بالكيان. جميلٌ أنْ نتلوَ آياتِ التفاؤلِ في أزمنةِ القلق.

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @AzziSejean
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى