كيف ولّدت أحداث 2011 وما بعدها السينما البديلة في مصر

بعدما عرفت السينما المصرية إنحداراً في السنوات الأخيرة بعدما كانت متألقة وناجحة، ها هي الآن تستعين بالسينما البديلة لكي تعيد مجدها الغابر.

سينما “زاوية” في القاهرة

القاهرة – هدى أحمد

تتميّز السينما في مصر بتاريخها الطويل الذي عرف عزّاً ونجاحاً حيث تحوّلت مع الوقت إلى مساحة مُتنازَعٍ عليها. بعد تأميمها في العام 1966، إنحدرت هذه الصناعة الفنية المزدهرة سابقاً بشكل مُطرد وتعرّض مُشغِّلو المسارح السينمائية للرقابة بشكل متزايد. كانت الشركة المستقلة الوحيدة التي سُمِح لها بالعمل هي شركة “أفلام مصر العالمية”، التي أسسها في العام 1972 المخرج المصري يوسف شاهين (1926-2008)، لإنتاج وتوزيع وعرض الأفلام، حيث منحت الفرصة، مُصادفة، للدولة للإدّعاء وتقديم نفسها على أنها راعية الفن السينمائي. وقد وفّر مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السنوي (الذي تأسس في العام 1976) المناسبة الوحيدة للجمهور العام لمشاهدة أفلام أجنبية، وإن كانت مُختارة عشوائياً من نوعية رديئة غالباً. في أوائل ثمانينات القرن الفائت، مُنحت دور السينما تصاريح لعرض أفلام أجنبية التي كانت في البداية نادرة جداٌ على الرغم من الحماس العارم الذي كان يُبديه الجمهور لتلك الأفلام. وعلى سبيل المثال، إستقبل رواد السينما أول عرض محلي لفيلم “غزاة السفينة المفقودة” (Raiders of the Lost Ark)، في سينما مترو، الجيدة في ذلك الوقت، في القاهرة، بحماس كبير مع شغب شبيه بما يجري عادة في مباراة بطولة كرة القدم.
حتى منتصف تسعينات القرن الفائت إستضاف وسط مدينة القاهرة دوراً سينمائية كبيرة ورائعة، التي عرضت آنذاك دفقاً مستمراً من الأفلام الأجنبية المُجزية تجارياً جنباً إلى جنب مع أفلام الكوميديا والدراما المصرية. وقد إزدحمت في حينه الأرصفة برواد السينما الذين تدفقوا إلى الشوارع. ولكن هذا الوضع تغيّر كلّه مع تضاعف عدد مراكز التسوّق (المولات) التي فرّخت قاعات سينمائية متعددة “سينبليكسس”. إن الأساس المنطقي لإغراء الجماهير وجذبه من طريق قرب المسافة (التوسع إلى الأحياء) وعرض أوسع للأفلام قد هُزم بسبب محدودية المحتوى المتاح في مصر سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً. وفي حين إستخدمت حفنة من المخرجين ورجال الأعمال إتصالاتها السياسية لتسهيل مشاريع الأفلام الطويلة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مما أدّى إلى رفع قيم الإنتاج من المعايير السيئة للغاية التي كانت في الماضي، فقد إلتزم هؤلاء بالأشكال التجارية من دون إستثناء تقريباً. بين الرقابة والرسوم الجمركية والتأخير ورسوم الإيجار وهموم التسويق نادراً ما غامر مُشغّلو المسارح السينمائية خارج التيار الرئيسي. هنا، كما هو الحال في أماكن أخرى، فإن إرتفاع أسعار التذاكر إلى جانب هجوم أقراص الفيديو الرقمية المُقرصَنة وتنزيل الأفلام من خلال الإنترنت أدت إلى إنخفاض كبير في عدد المشاهدين.
ثم جاء العام 2011 وما أعقبه من رد فعل من جانب الدولة: حملة على المجتمع المدني ربما تكون هزمت، لكن ضاعفت بدلاً من ذلك، جهود الفنانين الشباب والناشطين للعمل ضمن شقوق النظام لتعزيز قضية التعبير الإبداعي. في الوقت نفسه، وضعت التكنولوجيا الرقمية وسائل الإنتاج في أيدي جيل جديد من المخرجين الذين تحدّوا الإتفاقات لتوليد روايات أصلية، في حين واجهوا ندرة أماكن العرض وإمكانيات التوزيع. وجرت معالجة أوجه القصور هذه من خلال مشاريع مستقلة مُنسَّقة ترمي إلى تعريف الجمهور المحلي بثقافة سينمائية إقليمية ذات أبعاد واسعة وعمق تاريخي لم يتم إستكشافها من قبل.
إفتُتِحت أول سينما بديلة في القاهرة، “زاوية”، في آذار (مارس) 2014، مع 175 مقعداً في الطابق الثاني لسينما “أوديون” في وسط العاصمة المصرية. مُجهّزةً بمدخل منفصل ومقهى في الطابق الأرضي، فإن “زاوية” تعرض أنواع أفلام مختلفة عن تلك التجارية المتاحة في دور عرض السينمات الأخرى. فهي تُقدم أفلاماً نصف – وثائقية وخيالية شبه تجارية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويبلغ سعر تذكرة الدخول إليها 35 جنيهاً مصرياً (بالمقارنة مع 75 جنيهاً في بعض دور “سينيبلكسس”). وقد إستقطب الإعلان على وسائل التواصل الإجتماعي حصراً في السنة الأولى 25 ألف شخص، وهو ما تضاعف تقريباً في العام التالي. في الشهرين الأولين من العام 2017 تجاوز العدد ال20,000، وعَكَس الشهية المحلية للتنوع، وبخاصة بالنسبة إلى رواد السينما الشباب.
تستفيد سينما “زاوية” من موارد شركتها الأم، وهي شركة أفلام مصر العالمية، التي أطلقت مهرجان القاهرة السنوي في العام 2007 تحت إسم “بانوراما الفيلم الأوروبي”، والذي يتولى إدارته فريق “زاوية”، وقد توسّع ليشمل مدناً أخرى. إن الأفلام المُعَّينة والمُوَجَّهة للمهرجانات تُعاني من قيود بيروقراطية أقل، كما أن “مكانة المهرجان” التي ورثتها “زاوية” عزّزت وصولها إلى المحتوى الأجنبي في حين مكّنت أيضاً بداية مساعٍ مماثلة. إن عشاق السينما الشباب الذين يتشاركون مع “زاوية” لتبادل الأفلام في طنطا والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية، يتابعون قيادتها في تنشيط دور السينما الفاشلة مع برمجة جديدة وجماهير جديدة.
يقول يوسف شاذلي (27 عاماً)، المدير العام ل”زاوية”: “لم نفعل أي شيء جديد، إننا في الواقع نلبّي الحاجة التي كانت موجودة أصلاً”. إن الحاجة الأكثر إلحاحاً هي التوزيع. وتُعرَض الأفلام غير التجارية عادة في ظروف معزولة لمرة واحدة في مراكز مجتمعية أو ثقافية. و لأنها تقوم الآن بدور الموزع لمجموعة مختارة من أعمال المخرجين المصريين المستقلين، تستضيف “زاوية” والشركات التابعة لها الآن العديد من العروض، ومنتديات لتسويق الأفلام للتلفزيون الإقليمي والفيديو على الطلب، وضمان عروض في المهرجانات الأجنبية. وقد برهنت “زاوية” وشركاتها على أنهما أكثر تقبلاً وترابطاً منطقياً من المهرجانات التي تُنظّمها الدولة بشكل عشوائي، والتي تفتقر إلى الكفاءة المهنية والشفافية والنطاق الفني.
وتظهر تجربة تامر السعيد كيف أن صناع السينما المستقلين يتابعون مهنتهم في حين يشجّعون سينما بديلة. بعدما قام بتأليف قصة وسيناريو العديد من الأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية، بدأ سعيد أول فيلم روائي له في العام 2008 – “آخر أيام المدينة” (2016) – حيث عمل بشكل وثيق مع الممثل المصري – البريطاني خالد عبد الله، الذي يلعب دور البطولة في الفيلم. وفي صورة رثائية، لكن غير ناضجة، للقاهرة في الأشهر التي سبقت إنتفاضة 2011، تجاوز فيلم سعيد وسَمَا فوق سياقه القاهري. من خلال ملامح حياة أصدقاء أبطال الرواية في بغداد وبيروت، يؤكد فيلم “آخر أيام المدينة” على التناقض والضعف في الواقع الحضري للمنطقة. وقد دعته مجلة “فارايتي” (Variety) “عنصر مهرجان طبيعي، مع فرص تستهدف لعبة بيت الفنون”. وقد عُرض الفيلم في العام 2016 في مهرجان برلين، كما تم عرضه في حوالي 70 مهرجاناً في جميع أنحاء العالم.
مع ذلك، فقد مُنع هذا الفيلم من العرض في مصر، ولا سيما في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مع عذر غريب بأنه قد عُرض كثيراً في الخارج، وبالتالي لم يكن مناسباً لجمهور المهرجان. إن تصوّر سعيد المطلق للقاهرة في كل مجدها المُهمَل هو السبب الأكثر إحتمالاً للسلطات لحجب الفيلم (الذي توزعه محلياً “زاوية”) عن صالات العرض المصرية. ولكن حدث شيء مضحك قبل الوصول إلى الرفض. في العام 2008، أنشأ سعيد وعبد الله شركة “زيرو للإنتاج” لتصوير فيلم “آخر أيام المدينة” وهي تتضمن إستوديو صغيراً جداً في شقة في الطابق السادس في وسط مدينة القاهرة. وكانت نتائج التجربة ولادة “سيماتك” – مركز الفيلم البديل (السينما العربية الوثائقية)، وهو مركز يهدف إلى أن يكون مساحة لمشاهدة الأفلام وفتح نقاشات حولها، وإستكشاف السينما وتطويرها، مع الإيمان بأهمية المحافظة على التراث السينمائي، وإستشراف المستقبل من خلال دعم ثقافة الأفلام البديلة. وقد إفتتح في العام 2015.
صُمّم من قبل ومن أجل صناع الأفلام ومحبي السينما (يحتل شقتين في المبنى حيث بدأت “زيرو للإنتاج” عملها)، يتضمن “سيماتك” جناحاً للتحرير، وكاميرات 16 ملم و 35 ملم، ومعدات تطوير الأفلام، وماسحاً ضوئياً لرقمنة الأفلام التناظرية والفيديو، وأرشيفاً، وغرفة عرض مثالية سمعياً (تتسع ل70 شخصاً) مع قدرات متعددة الشكل للعرض. وبدلاً من إنتاج الأفلام، يُسهّل “سيماتك” عملية الإنتاج من خلال توفير المعدات وورش التدريب والعمل المتعمقة بأسعار معقولة. وبإستكشاف جوانب متنوعة من صناعة الأفلام، فإن هذه الدورات التدريبية تُدار من قبل كيانات مماثلة، بما في ذلك “أتولييه فاران” (Atelier Varan)، الذي من خلال التدريب العملي على منهجياتٍ لإنتاج الأفلام الوثائقية منخفضة الموازنة يُمَكِّن المخرجين في جميع أنحاء العالم النامي.
بتمويل من مجموعة من المصادر المستقلة والأنشطة المُدرّة للدخل، كان القصد من “سيماتك” في البداية، وفقاً للمخرج العراقي – الفرنسي والمؤسِّسة المُشارِكة هناء البياتي، “لدعم تطوير مجموعة متنوعة من الروايات وخلق مساحة حيث يمكن مناقشتها”. ومن أجل بناء الوعي بالنسبة إلى الروايات القائمة، يُقدّم برنامج “سيماتك” مجموعة من الأفلام التاريخية/ الأرشيفية والمعاصرة، “أشياء نادراً ما تُشاهَد” على حد قول البياتي. يتم الحصول على الأفلام محلياً ودولياً، سواء من المخرجين أو من شركات التوزيع أو المؤسسات مثل المركز الثقافي الفرنسي ومعهد غوته. كما حصل “سيماتِك” على مواد من خلال عضويته في شبكة شاشات بيت الفن العربي، وهي مجموعة مكونة من ممثلي إثني عشر بلداً عربياً مُكرَّسة لبناء جمهور للأفلام غير التجارية في جميع أنحاء المنطقة.
تقول القيّمة على البرنامج وخريجة كلية السينما في جامعة نيويورك ياسمين دسوقي، إن “سيماتِك” “يشدد على الإنفتاح والمرونة والسياق السليم” في خيارات العرض الخاصة به، “لنقل الإحساس بسرد القصص، وإقامة روابط بين مواضيع أو أشكال مختلفة لا ينظر إليها الناس عادة، والأهم من ذلك كله، خلق مجتمع لعشاق السينما في المدينة “. وإعترافاً بأن المشهد السينمائي يحتاج إلى النقاد لتقديم تفسيرات لإثارة الحوار وتعزيز شكل ممارسته، فقد إتخذت سيماتِك القرار. بعدما كان يملأ المجلات المحلية المتعددة اللغات، فإن النقد السينمائي المصري قد إنخفض جنباً إلى جنب مع توفر الأعمال للنقد والغياب النسبي للصحافة المستقلة – في مصر – التي إستعادتها شبكة الإنترنت أخيراً. ومن خلال ورش عمل مُخصَّصة ومنشورته العربية نصف السنوية، “كراسات”، فإن مركز “سيماتِك” سيساعد على تشكيل جيل جديد من الكتاب السينمائيين.
بالشراكة مع المهندس المعماري عمر نجاتي، المؤسس المشارك لمركز مدينة القاهرة للدراسات العمرانية والتدريب والبحوث البيئية — كان تامر سعيد مُرهَقاً في رؤيته لتحويل شقة سكنية إلى مركز سينمائي. من إجتماع لتجريد الخشب الطبيعي من السقف العالي وغرف العمل مع نوافذ تؤطر المدينة المتشابكة، إلى راحة ونوعية مسرح العرض والكتيبات الأنيقة مع نصوص ثنائية اللغة موجزة تصف البرامج الشهرية الموضوعية المتوفرة في بهو البناية، كل شيء عن “سيماتِك” يعكس وضع قيمة للفيلم كشكل فني.
ومعاً، قامت “سيماتِك” وشبكة شاشات بيت الفن العربي “وزاوية” أخيراً بتنظيم ندوة ضمت مشاركين من المدن في جميع أنحاء مصر لإقامة المزيد من أماكن العرض. وقد أقيم مهرجان “زاوية”، “أيام السينما في القاهرة”، من 9 إلى 16 أيار (مايو) في بورسعيد والإسماعيلية والإسكندرية، حيث عرض أفلاماً عربية وأوروبية وأفلاماً قصيرة. وبفضل هذه التفاعلات والتدخلات، يشارك جمهور مصري كبير ومتنامٍ بشكل جيد في خلق فضاء ثقافي ذي أهمية بعيدة المدى على الرغم من جهود الدولة على عكس ذلك. إن الدافع لمؤسسي هذه المشاريع، كما عبّر عنه عمر نجاتي، هو “للعمل بشكل إنتقائي لإجراء إصلاحات صغيرة – وهذا عملي وتكتيكي – يجب أن يكون لديك رؤية أكبر ولكن في داخلها يمكنك التصرف خطوة خطوة، والشراكة مع مجموعات أخرى لتوسيع نطاقك والعثور على مجالات جديدة من النفوذ “. إن المشهد السينمائي الناشئ في مصر هو دليل على أن الدولة المُخاصِمة قد أثارت عن غير قصد تحالفاً بين مجتمع الفنانين المرن والذكي ودعاة الفنون العازمين على تبادل رؤاهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى