لماذا ارتفع الدولار في لبنان بعد استقرارٍ مُريب؟

بقلم البروفسور مارون خاطر*

قد يكونُ التَركيزُ على أسبابِ الإرتفاع الصادم في سعر الصرف في الأيام الأخيرة أدَّى الى حَجبِ الاهتمام عن أسبابِ استقراره المُريب خلال الشَهرَين المنصرمَين. الإرتفاع في سعر الصرف مشبوه كما الاستقرار مشبوه. إستقرّتَ سوق القطع في لبنان على علوِّ كارثيٍّ مُرتَفعٍ بما يشبه ضروب السحر في وقت عاثت المصائب في الحجر والبشر فصولاً. لم تتغيَّر المعطيات “الجهنميَّة” السياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والنقديَّة. إستمرَّ التعنّت والتراشق الرئاسيَّان وتابع احتياطيّ المركزيّ سقوطه الحرّ إلى هاوية النفاذ. جفَّ نبع التحويلات والمساعدات وغاب طيف الثقة إلا بربِّ العالمين وحده. فكيف ولماذ استقر سعر الصرف إذاً؟

نظرياً، قد يُنسب هذا الاستقرار إلى العديد من العوامل السياسيَّة العالميَّة والإقليميَّة والمحليَّة كالتداعيات المُرتَقَبة لتغيير الادارة الأميركية والتَموضُع الإيراني في المنطقة وعدم استقرار الطقس الحكومي. إلّا أنّ الارتفاع البهلواني لسعر الدولار نَسَفَ كل ما تقدم وأكَّدَ أنَّ مَن هُم وراء الارتفاع هم أنفسهم مَن يُرسون الاستقرار. إنهم زمرةٌ من المُشغِّلين لتطبيقات مُتفلِّته يستغلون عجز مصرف لبنان المركزي عن التدخل ليعبثوا بالسوق السوداء لمصلحة زبائن ومُنتفعين مُتغيِّرين وكُثُر.

أمَّا ارتفاع سعر الصرف، فلم يُشكِّل سابقةً بحدِّ ذاته، بل بتوقيته وسرعته ومُعدَّله. فالدولار عاود ارتفاعه بعد الاستقرار المُلتَبس وذي المنحى التصاعدي غير الإنكفائي في وقتٍ لم يطرأ تغيّرات مُهمّة على المشهد القاتم. ولعلَّ أكثر ما يضع هذا الارتفاع القياسي في مرمى الشبهات حدوثه ليلاً، وفي فترة زمنية قياسيّة لا تتجاوز الساعتين. يَدفعُنا هذا المنحى إلى الجزم، بأن سعر الصرف ارتفع بفعلِ فاعِلين كثيرين. لَم تَحجُب عتمة الليل وسَكينة النفوس قذارة التطبيقات ومُشغّليها، كما لن يخفي جنح الظلام والظلم والعبثية وَخْمَ مَن وراء أولئك المُشغِّلين. لا يمكن أن يكون ارتفاع سعر الصرف محصِّلة للعرض والطلب في سوق القطع المقطوعة الأوردة، ولا نتيجةً لازدهارِ التجارة أو خوف المُدَّخرين في زمن الإقفال والجوع، بل ارتفاع سعر الصرف سببه جشع المُتموّلين والمُتحكّمين مِمَن أساؤوا أمانة الكثير فلا يصعب عليهم القليل. ليس هناك في العالم أجمع من عملة تخسر، بفعل العرض والطلب، ما خسرته الليرة اللبنانية في تلك الليلة. ما سبَّب الارتفاع الجنوني لسعر الصرف هو على الأرجح، المضاربة التي تُنفّذها جثثٌ مصرفية متحرِّكة مفلسة.

حصل الارتفاع المباغت مع قرب نهاية شهر شباط (فبراير) الحالي، وهي المهلة التي حدّدها مصرف لبنان للمصارف لزيادة رساميلها بنسبة 20% ولزيادة موجوداتها بالعملات الصعبة في الخارج. لذلك، فمن المرجَّح أن يكون التعميم 154 هو السبب الرئيس لما شهدته سوق القطع في الأيام الأخيرة. فهذا التعميم المُمَدَّد يُلزِم المصارف بتكوين حسابات خارجيّة لدى المصارف المُراسلة بما قيمته 3% من الودائع. المصارف التي فشلت في “حثّ” زبائنها على إعادة جزء من أموالهم المحوّلة، عَمَدَت إلى التفتيش عن مصادر أخرى لتأمين الدولار. فالمصرف المركزي لم يتجاوب مع طلبات التعديل المشبوهة لهذا التعميم، كما لم يُمدِّد المُهَل. يبدو أن المصارف قرّرت عدم الإكتفاء بحجز 100% من الودائع، فتوجّهت إلى سوق القطع في محاولةٍ لجعل المبلغ المحجوز يصل إلى 103% من قيمتها، في خطوة جائرة تستهدف المُودِعين وغيرهم من الفقراء. مع اقترابِ نَفاذِ المُهَل، باتت الشيكات المصرفية المُحَرَّرة بالليرة اللبنانية تُحوَّل إلى الدولار بأقل من 25% من قيمتها الإسميَّة. يحصل ذلك بالتزامن مع ارتفاعٍ غير مسبوقٍ للعرض لناحية عدد الشيكات وقيمتها. وتَجدُرُ الإشارة الى أنّ المصارف كانت دخلت على خطّ المُضاربة، وإن بوتيرةٍ أقل، منذ إصدار التعميم 154. لذلك، قد تكون الزيادة القياسيَّة في سعر الصرف ناتجة من احتدامِ المُضارَبة بين المصارف نفسها، في محاولةٍ للاستحصال على الجزءِ الأكبر من الدولار الحقيقي المتوفِّر في ظلّ شح العرض. مساءَ أمس، وعَقِب إعلان المصرف المركزي رسميّاً تمسُّكه بالمهل، عاود الدولار ارتفاعه الجنوني. ليس هذا الارتفاع إلّا انعكاسٌ لهذه المضاربة الشَّرِسة التي تتحكّم بسوق القطع والتي لا يُمكن أن يديرها إلّا من يمتلك كتلةً نقديةً مُحرَّرةً ووازنة.

دخول المصارف على خطّ المضاربة وما ذُكر من أسباب، لا يُلغي المفاعيل السلبيّة السياسيَّة والاقتصادية والصحيَّة وتأثيرها في ارتفاع سعر الصرف ومنها استمرار انسداد الأفق الحكومي وازدياد التراشق العبثي بين صانعي القرار، لا بل بين وكلائهم. إنكماش الاقتصاد وغياب التدفّقات بسبب فقدان الثقة المُحِقّ، تداعيات رفع الدعم غير المُعلَن، التهريب وجائحة كورونا وزيادة أسعار النفط عالميّاً، بالإضافة إلى استمرار طبع العملة وعدم توحيد سعر الصرف. كل هذه العوامل مجتمعة تُساهم بتفاقم الكارثة، إلا أنها كانت موجودةً يوم كان سعر الصرف يشهد استقراراً مُلتبساً مما يدعم نظريتنا.

السؤال الأبرز اليوم ليس فعلاً لماذا ارتفع سعر الصرف أو لماذا قد يرتفع، بل كيف ينهض اقتصادٌ وتُبنى ثقةٌ بقطاعِ مصرفي تدور حوله شبهة المُضارَبة في سوق القطع بعد جريمة إساءة الأمانة؟ ستنتفض المصارف غداً أو بعد غد لتَنفي وتُدافع وفي انتفاضتها وَجَعٌ أكبر وجرحٌ أعمق وبينهما حقيقةٌ ضائعةٌ بين مثيلاتها.

كيف لِمَن لم يَعرف بعد مَن قتل شعبه ودمَّر عاصمته أن يعرفَ مَن يتلاعب برغيفِ خُبزه؟

فالموتُ والذُّلّ سيَّان!

  • البروفسور مارون خاطر أستاذ محاضر وباحث لبناني في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى