إشكالات تعدّد الولاءات الوطنية

 

بقلم السفير الدكتور جان معكرون*

إنّه واقعٌ لا يُمكن نكرانه وهو تهافت أعداد كبيرة من مواطني الدول النامية للحصول على جنسية دول العالم المُتقدّم مثل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا والدول الأوروبية…

تنشأ عادةً التابعية أو الهويّة الوطنية بفعل الولادة في إقليمٍ مُعيّن أو الإقامة الدائمة فيه وفقاً لقانون كل دولة. ويترتّب على مُكتسِب التابعية الجديدة لدولةٍ مُعيّنة حقوق وواجبات، نذكر منها الولاء لها وليس لغيرها، إضافةً إلى مشاركته في شؤونها العامة من طريق الإنتخاب، وعليه أن يلتزم بواجباتٍ مثل حقّ الدفاع عن كيانها ودفع الضرائب.

السؤال المطروح هو لماذا يرغب مواطنو دولة معيّنة بالهجرة إلى دولةٍ أخرى وما هي النتائج المترتّبة عن ذلك؟

في المبدأ، يحقّ لكلّ فردٍ مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده وفي العودة إليه طبقاً لما جاء في المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة في العام 1948. كما أضافت المادة 15 أنه “لا يجوز، تعسّفاً، حرمان أي شخص من جنسيّته ولا من حقّه في تغيير جنسيته”.

يُمكن اختصار أسباب الهجرة بالآتي: عدم توافر سُبُل الرزق والعيش الكريم، الهرب من تعسّف واضطهاد الحكّام والكساد الإقتصادي وعدم توافر فرص العمل، التفتيش عن مجتمعٍ أفضل يسود فيه العدل وحكم القانون، الإبتعاد عن الفتن الداخلية والحروب، طلب العلم في جامعاتٍ أجنبية…

كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي رحّبت بالمهاجرين، وفي العام 1783، كان بنجامين فرانكلين من أقوى المنادين بالهجرة المفتوحة قائلاً آنذاك: “إنّ كلّ رجلٍ يصل… ويأخذ قطعة أرض يضيف قوّةً إلى الأمّة”.

ولقد أدّت هذه الهجرة إلى وصف الولايات المتحدة بأنها خليط عِرقيّ (MELTING POT). فالزائر لمدينة نيويورك سيلتقي في كل حيّ إيطاليين أميركيين وكوبيين أميركيين وإيرلنديين أميركيين إضافةً إلى إثنياتٍ عديدة…

في حين نرى في الصين مليار و300 مليون مواطن ينتمون جميعهم إلى عِرقٍ واحد. لكنّ الملفت للإنتباه أنّ 85% من طلاب الصين، الدولة العظمى، الذين تخرّجوا من جامعات الولايات المتحدة قد فضّلوا البقاء في هذه الأخيرة.

إنّ اكتسابَ مُهاجرين جنسية دولة أخرى يطرح في الجوهر مسألة مدى توفيقهم بين جنسيتهم الأصلية وجنسيتهم الجديدة وتكيّفهم بين الإثنتين. فنحن حقًّا في زمن ازدواجية الجنسية وازدواجية الولاء. ولقد نشأت هذه الظاهرة نتيجةً للحداثة التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، وما زلنا نعيشها لغاية اليوم، وتمايزت بأولوية الإنسان وبدعم استقلاله وإرادته الحرّة والتي أكّدت حقّه في تقرير شؤونه المدنية، فأصبح للفرد خيارات متعدّدة، ممّا أجاز للملايين ترك قراهم ومجتمعاتهم والهجرة إلى بلدٍ آخر سعياً وراء فرصٍ جديدة ورغبة بتحقيق أحلامهم.

وخلافاً للصين واليابان، اللتين تتميّزان بمجتمعات مُتجانسة ومُغلقة ومُوَحَّدة، واللتين بفضل وحدة العِرق في كلٍّ منهما استندت إلى روح المواطنة الواحدة والأهداف المشتركة في تحديد هويّتهما، نجد أنّ الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا قد فتحت أبوابها أمام هجرة الملايين من مختلف الأديان والأعراق واستفادت من هذا التنوّع لكي تبني هويّتها عليهم، وربطت هذه الهوية بمبادئ راقية مثل الالتزام بالدستور وحكم القانون والقيم الإنسانية.

فعلى كل أجنبي اكتسب الجنسية الأميركية أن يحلُف يميناً يعبّر فيه عن التزامه بهذه المبادئ ونذكر منه الآتي:

“أقسم اليمين أنني أرفض وأتخلّى إطلاقاً وبشكلٍ كامل عن أي ولاء أو انتماء إلى أي أمير أو دولة أو سيادة أو حاكم كنت تابعاً لأيٍّ منها أو مواطناً… وإنني أدعم وأدافع عن دستور وقوانين الولايات المتحدة الأميركية ضدّ جميع أعدائها في الخارج والداخل”.

كما نصّت المادة 118 من الدستور الأوسترالي على التالي: “ينبغي منح الثقة الكاملة والولاء للقوانين والتشريعات العامة والسجلات والإجراءات القضائية لكل ولاية وذلك في جميع اتحاد الكومنولث”.

إنّ الإشكال الأساسي يدور حول ازدواجية الولاء لدولتين عند نشوء مصالح متضاربة مثل نشوب حرب بين الدولتين فعندها تبرز مشكلة الولاء في أسوأ مظاهرها. أما الإشكال الثاني فيتمثّل في الإحراج الذي ينتاب مُكتسِب الجنسية الجديدة عند اختياره أحد الخيارين الصعبين، وتنطبق هذه الحالة على المواطنين الألمان من أصلٍ تركي والفرنسيين من أصل جزائريّ لدى تردّدهم، خلال الانتخابات، في دعم مرشّحين مؤيّدين لمصالح ألمانيا أو فرنسا أو مرشّحين مؤيدين لمصالح تركيا أو الجزائر.

وفي هذا السياق، أتذكّر أنّ صديقاً لي شعر بإحراجٍ كبير لدى خضوعه لآخر تحقيق من قبل مسؤولة دائرة الهجرة الأميركية قبل منحه الجنسية، عندما طرحت عليه السؤال التالي: من تؤيد، لبنان أم الولايات المتحدة، في حال نشوب حربٍ بين الدولتين؟ إمتنع صديقي عن الإجابة، فتمّ تأجيل طلب منحه الجنسية.

نجزم بالقول أنه لا يُعقَل أبداً أن يكون الولاء لدولتين لأنّ هذا الولاء المزدوج غير دستوري وغير شرعي وغير منطقي لأنّ الازدواجية في الولاء لوطنين تندرج في إطار التخبّط الفكري والهرطقة القانونية. فمن غير المألوف أن يُنشد المواطن نشيدين وطنيين وأن يحلُف يميناً بالولاء إلى دولتين ويلتزم بالحفاظ على عَلَمين وطنيّين وباحترام الدستور والقوانين الصادرة في هذين الوطنين. وعلى الفرد أن يختار بين الولاءَين وفقاً لقناعاته ومصالحه. وإنّ دولاً عديدة مثل النمسا ترفض منح الجنسية إلى أجنبي إلاّ بعد أن يتنازل عن جنسيته الأصلية.

وكان كبار المفكّرين والعلماء الدستوريين اعتبروا أنّ من يكتسب جنسيّتين يمارس حقوقاً في دولتين مثل حق التصويت المزدوج في كلٍّ منها ولقد وصفه البعض بالناخب المزدوج (Double Voter) أو (SUPRA-CITIZEN) وهذا يتعارض فعلاً مع مبدأ المساواة بين المواطنين. ونذكر على سبيل المثال أنّ أميركياً من أصل مكسيكي استطاع التصويت في العام 2006 في أميركا والمكسيك خلال انتخابات حصلت في الدولتين.

وكذلك رأينا أميركياً من أصل بريطاني يصوّت في العام 2004 مرتين، الأولى لصالح “جون كيري- جورج بوش” في الولايات المتحدة والثانية في بريطانيا لصالح “طوني بلير- مايكل هوارد”، وذلك خلال خمسة أشهر. ففي المفهوم الديموقراطي الأميركي، يُعتَبَر هذا الولاء المزدوج مخالفاً للقيم والآداب الدستورية. إضافةً إلى ذلك، إعتقد بعض المفكّرين أنّ ازدواجية الولاء تُخفّف من قوة وحرارة الولاء السياسي في الدولتين لأنّ صاحب العلاقة أصبح منقسماً بين مبادئ سياسية أساسية في دولةٍ ما ومبادئ سياسية في دولة ثانية قد تكون مخالفة للأولى.

فالمبدأ هو ولاء وطني غير مُنقَسم وغير مُجزّأ.

وحيث أنّ اكتساب جنسية ثانية أصبح سهلاً ومألوفاً في أيامنا هذه، فإنّ المراقب يخرج بانطباعٍ بأنّ الوطنية لم تعد مبنية على الشعور الصادق بالإنتماء القوي للوطن والارتباط العاطفي بأرض الوطن، أرض الآباء والأجداد. وكان البطل القومي الإيطالي “جيوزيبي مزّيني” (GIUSEPPI MAZZINI) قد عبّر ببراعة عن وطنه قائلاً: “الوطن هو هبة من الرب… هو إسمنا، مجدنا ورمزنا بين الأمم”.

هذا الشعور الراقي والنبيل بالوطنية أصبح من الماضي لأنّ الانتماء الوطني أضحى في أيامنا هذه مرتبطاً بمصلحة طالب الجنسية. فأين يجد مصلحته يكون وطنه، ومصلحته تكمن في الدولة التي تؤمّن له فرص العمل وتضمن له الحكم العادل والعيش الكريم والمساواة في الحقوق، إضافةً إلى حيازة جواز سفر محترم دولياً يؤمّن له حريّة التنقل والسفر بكرامة…

ولا يختلف اثنان على أنّ الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا قد نجحت في استقطاب الملايين الساعين إلى مجتمعٍ أفضل، فأضحوا مواطنين تابعين لهذه الدول ونسوا وطنهم الأمّ، وإنّ ما يربطهم بأوطانهم الجديدة هو التزامهم بدساتيرها وقوانينها وتقاليدها الديموقراطية.

والواضح لدينا أنّ كل مَن يهاجر إلى الدول المذكورة أعلاه أو إلى أوروبا ويكتسب جنسية إحداها فإنه لن يعود إلى وطنه الأم إلّا للسياحة واستذكار موتاه واسترجاع ذكرياته، فالعودة النهائية إلى وطنه الأول أضحت مستحيلة بفعل اعتياده على حياةٍ أفضل، إضافةً إلى التزامه بأعماله في موطنه الثاني وبظروفه العائلية الجديدة، وعلى الأخص بعد اكتساب أولاده جنسية الدولة المضيفة وترعرعهم في بيئة اجتماعية مُختلفة تماماً عن بيئة أهاليهم وأجدادهم في الوطن الأمّ، إضافةً إلى عدم إلمامهم بلغة هذا الأخير.

إنّ هذه الحالة المشار إليها أعلاه تنطبق كليّاً على آلاف اللبنانيين الذين هاجروا بعد أن خذلهم الحكّام المفتقرون إلى رؤية مستقبلية وإلى المسؤولية الوطنية، وهكذا يصحّ القول أنّ لبنان أصبح بفضل حكّامه مُفتَقراً إلى أبنائه المهاجرين وغنيّاً بالعمّال الأجانب واللاجئين والنازحين، فتلك مفارفة غريبة. وهكذا، يكون اللبنانيون، مع الأسف، قد هاجروا وبنوا أنّى شاؤوا، في بقاع العالم، لبنان، متسلّحين بقول شاعر لبنان، سعيد عقل، إلى رفاقِهِ القدامسة (قدموس):

ومن الوطنِ الصّغيرِ نرود الأرضَ                                            نذري في كل شطٍّ قرانا

نتحدّى الدنيا شعوباً وأمصارا                                                  ونبني – أنّى شئنا – لبنانا

يجب الإشارة هنا إلى أنّ مشكلة الولاء تزداد تعقيداً في حال وجود مجموعة مواطنين داخل دولة معيّنة تحمل بطاقة هويّتها لكنها موالية لدولةٍ أخرى قلباً وقالباً، ظاهراً وباطناً، “سراً وعلانية، حباً وطواعية” بالإذن من المؤلف الموسيقي مارسيل خليفة.

إنّ حالةً كهذه أشدّ خطراً من ازدواجية الجنسية. وإذا كان الإنقسام في الولاء لدى حيازة جنسيتين حالة غريبة، فأن تكون مقيماً في دولة وتحمل هويّتها ويكون ولاؤك كلياً لدولة أخرى فتلك حالة أشدّ غرابةً. فعلى المرء أن يكون واضحاً وصادقاً مع نفسه، وإلاّ يقع في حالة انفصامٍ وطني غير مألوف، فالتعريف التقليدي للولاء يستند إلى واجب الأمانة والوفاء من الشعب أو المواطنين إلى دولتهم.

يبقى أن نقارب موضوع إشكالات التعدّدية الإثنية داخل الدولة. فالدول التي فتحت أبوابها أمام المهاجرين ازدادت فيها التعدّدية الإثنية، ورأى المراقبون أنها تفرض على المواطنين الأصليين بعض القيود كعدم المشاركة مع المُجنّسين الجدد في مواضيع معيّنة، سياسية كانت أم دينية، وذلك في إطار اللياقة الاجتماعية. لكن، يرى آخرون أنّ هذه القيود تُشكّل مخالفة لحريّة إبداء الرأي لدى السكان الأصليين، إضافةً إلى ذلك، فإنّ هؤلاء يفضّلون التفاعل مع أفرادٍ يشاركونهم المبادئ ووجهات النظر والتقاليد ذاتها. كما يعتقدون أنّ لهم الحق في حفظ وصيانة الثقافة والعادات التي توارثوها من أهاليهم وأجدادهم.

ومن جهةٍ أخرى، يرى مفكّرون آخرون أنّ المجتمعات المُتجانسة والتي هي من عِرق أو إثنية واحدة تساهم في بعض الأحيان في تطرّف الآراء لدى أفرادها وفي تباعدها مع الآخرين وتؤدي أيضاً إلى نموّ الأفكار التعصبيّة وعدم التسامح بين الشعوب.

أما أنصار التعدّدية والتنوّع في البيئة الاجتماعية ومن أبرزهم مايكل لينتش (MICHAEL LYNCH) أستاذ الفلسفة في جامعة “كونيكتيكات” (CONNECTICUT) فلقد اعتبر أنّ فقدان استعدادنا في تحمّل التنوّع يؤدي إلى خسارة قدرتنا على المعرفة الذاتية. وأضاف أننا في حاجة إلى الآخر لكي نُحدّد حدود أنفسنا، وبالإختلاف نُنعش أفكارنا ونبقي الديموقراطية فاعلة.

أمام ما نشهده تجاه اتجاهين مختلفين، يُفضّل الأول الدولة المُتجانسة في شعبها، في حين يرتكز الثاني على التعدّدية الإثنية. نرى أنّ النخبة الفكرية في الغرب تميل إلى تأييد التعدّدية، متّهمةً الوطنية المغلقة بالإيديولوجية العنيفة.

في خضمّ هذه المنافسة في وجهات النظر بين مؤيّد ومعارض للتعدّدية الإثنية داخل الدولة وبين مؤيّد ومعارض لازدواجية الولاء، نرى الفيلسوف الألماني “إيمانويل قانط” (IMMANUEL KANT) الذي عاش في القرن الثامن عشر مُتفائلاً ومُتقدّماً عندما أعلن أنّ السلام الدائم ممكنٌ في حال قامت الشعوب المُتمدّنة في العالم بالتخلّي عن ولاءاتها الوطنية في سبيل إنشاء دولة عالمية (INTERNATIONAL STATE)، وعلى أن تنمو وتزدهر لكي تشمل كل شعوب الأرض. ويمكن برأينا البناء على فكرة “قانط” والمناداة بنظرية المواطن العالمي (CITIZEN OF THE WORLD)، وهو المتخلّي عن ارتباطه بدولة أو إقليم معيّن والقادر على التنقّل في جميع أنحاء العالم، والعيش أينما يشاء، والمُلتزم بمبادئ السلام والعدل وبأنّ الإنسان قيمة إنسانية أينما وُجِد.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو كاتب وديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى