حَربٌ إسرائيلية وانتِفاضَةٌ فلسطينية

الدكتور ناصيف حتّي*

جاءت العمليّةُ العسكرية في جنين ضدّ المدينةِ ومُخيَّمِها لتُمثِّلَ أَوجَ التصعيدِ الإسرائيلي في العدوان العسكري المُتصاعِد بقوّته والمُتَوَسِّع باهدافه في الضفة  الغربية، إذ تضرّرت حوالي ٨٠ في المئة من العقارات في المخيّم من خلالِ التدميرِ الكُلّي أو الجُزئي. وتُذَكِّرُ العملية العسكرية ضدّ جنين بتلك التي قامت بها إسرائيل ضد المدينة ومخيّمها في العام ٢٠٠٢ في خضمِّ الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وتقولُ إسرائيل أنها هدفت من عمليتها هذه ضَربَ المقاومة المسلّحة في عقرِ دارها. مقاومةٌ نشأت خارج التنظيمات الفلسطينية المعروفة وكردّ فعلٍ على أعمالِ القمع الإسرائيلية، كما على أعمالِ التهويد الجارية على كافة المستويات. ولا يُستَبعَدُ أن تقومَ إسرائيل بعملياتٍ أُخرى من هذا النوع ضدّ مُدُنٍ وقرى فلسطينية مختلفة مع ازديادِ نشاطِ المقاومة الفلسطينية المسلّحة .

جُملةٌ من الأسباب المباشرة كانت وراء انفجارِ الوضع ولم يكن الأمر مُستغرَبًا:

أوّلًا، النشاطُ الاستيطاني المُتسارِع، وعلى سبيل المثال تمّت الموافقة في الأشهرِ الستة الأولى من عُمرِ هذه الحكومة على إقامةِ حوالي ١٣ ألف وحدة استيطانية مع الإعلاناتِ الرسمية المُتكرّرة عن أنَّ الهدفَ هو الزيادة المفتوحة في أعدادِ المُستَوطنين في الضفة الغربية مع توفير كافة الوسائل لتحقيقِ هذا الهدف الذي يلتقي حوله البُعدُ الديني بالبُعدِ الاستراتيجي. وتدلّ التصريحات المُتكرّرة لكلٍّ من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، والإثنان يُعتَبران من أبرزِ رموز الصهيونية الدينية المتشدّدة، والأخير يمتلك من السلطات التي تخوّله تَشجيعَ الاستيطانِ ومساعدة المستوطنين، على هذا التوجّه الناشط .

ثانيًا، تَحَوُّلُ المستوطنين إلى ميليشياتٍ مُسَلَّحة، التي تحصلُ على الدعم من السلطات المعنية، يُشكّلُ تطوّرًا خطيرًا في دور هؤلاء على الارض. ويندرجُ ذلك ضمن سياسة استكمال إقامة إسرائيل الكبرى من النهر الى البحر عبر سياسة التهويد الناشطة على الصعيدَين الديموغرافي والجغرافي. كلُّ ذلك يحصلُ بالطبع على حسابِ الحقوقِ المشروعة للشعب الفلسطيني الرازحِ تحتَ الاحتلال. وفي السياق نفسه تزدادُ عملياتُ الاعتداءِ على المُقدّسات الإسلامية والمسيحية، وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي تهدف السياسة الإسرائيلية الراهنة إلى تقسيمه. ويجري ذلك تحت عنوان استرجاع الحقوق الدينية التاريخية ل”شعب إسرائيل” على أرضه.

ولا يكفي أن نسمعَ دعواتٍ من الأطراف الدولية للتهدئة او لوقفِ كلِّ أعمالٍ تهدفُ إلى إجراءِ تغييراتٍ على الأرض في الضفة الغربية المُحتلّة والتذكير بأنَّ حلَّ الدولتين هو الحلُّ المنشود والذي يُوفّرُ تحقيق السلام. ويُذَكِّرُ كبارُ المسؤولين الأميركيين من الرئيس جو بايدن إلى وزير خارجيته أنتوني بلِينكين بذلك من دون، بالطبع، مُمارسةِ الضغوط المطلوبة للإسهامِ في وقفِ هذه السياسة التي لا تُشكّلُ فقط تحدّيًا فاضحًا للقرارات الدولية ذات الصلة، وتحديدًا قرارات مجلس الأمن، إنّما تُشكّلُ خطرًا مباشرًا على تحقيق السلام في المستقبل. إنّها سياسةٌ تعملُ على نَسفِ كلِّ الأُسُسِ المطلوب الحفاظ عليها وتعزيزها. ولا يكفي أن تمتنعَ واشنطن عن دعوة رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، للقيام بما يُعتَبَرُ تقليدًا مُستقرًّا في العلاقات المميزة بين البلدين وقوامه زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي إلى واشنطن، بل توجه الدعوة لرئيس الجمهورية إسحاق هيرتسوغ للقيام بزيارة واشنطن. وهذا بالطبع ما قد يُحدِثُ أزمةً داخلية في إسرائيل في ما لو حصلت إلى جانب أزمةٍ في العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين.

ومع استمرار غياب القضية الفلسطينية بأبعادها وانعكاساتها على الأوضاعِ الإقليمية بدرجاتٍ مختلفة عن جدول الاولويات الإقليمية، تعمل إسرائيل على إقامة الدولة الواحدة من النهر الى البحر. الدولة التي قد تسمح للفلسطينيين ممارسة بعض الصلاحيات المحلية، التي تُسمى حُكمًا ذاتيًا، في مناطق إقامتهم، طبعًا بدون أيِّ سلطات سيادية. مقابل ذلك يطرح البعض كتسوية تاريخية ونهائية وعادلة للجميع قيام دولة واحدة على أساس المساواة في حقوق المواطنة بين جميع أبنائها، الأمرُ الذي يُشكّلُ نقيضًا للمشروع الصهيوني بكافة أشكاله. بالطبع يُعتبرُ ذلك بمثابة طرحٍ جذابٍ من حيث رؤيته  القائمة على مفهوم المواطنة البعيدة كل البُعد عن أيِّ ارتباطٍ بالانتماءات الدينية أو غيرها، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الدولة الواحدة. لكنه يبقى مشروعًا أو حلمًا لدى أصحابه، لا يمكن تحقيقه لأنه يُشكّلُ على أرضِ الواقع نقيضًا كلّيًا للمشروع الذي قامت على أساسه دولة  إسرائيل بكافة أبعادِ أو أشكالِ هذا المشروع، وبالتالي لا يمكن أن تسمح بإقامته.

التسوية العادلة والشاملة والدائمة لهذا الصراع المختلف الأوجه والأبعاد تستدعي العودة الى ما يعتبره البعض قد سقطَ نهائيًا مع التطورات المتسارعة والحاصلة على الأرض كما أشرنا سابقًا: مشروعُ الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنب. المشروعُ الذي تُشكّلُ كافة القرارات الدولية ذات الصلة مرجعيته الشرعية وإطاره العملي. إنَّ إحياءَ عملية التسوية الشاملة والعادلة وبالتالي الدائمة هذه ليست بالأمر السهل، ولكنها تبقى بالأمر المُمكن وغير المستحيل إذا ما تمّت مقاربتها والانخراط من قبل الأطراف الدولية والإقليمية المؤثّرة بمواكبتها بشكلٍ فاعلٍ وشاملٍ وتدرّجي لأنها في نهاية المطاف تُساهمُ ايضًا في توفير الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى