طهران تُغازِلُ القاهرة والرباط: التَطبيعُ بالمُفَرَّق!
محمّد قوّاص*
مُنذُ اتفاقِ بكين بين السعودية وإيران المُبرَم في 10 آذار (مارس) الماضي تُطلِقُ طهران رسائلَ الودِّ صوبَ المنطقة العربية. ولئن يبدو السياقُ منطقيًا لجهة تعبيد الطرق نحو تطبيع العلاقات مع المنطقة بعد أن ذَلَّلَ الاتفاقُ سُبُلَ العبور إلى مُقاربةِ نزاعٍ بين طهران والرياض هو الأشد حدّة مُقارنةً بباقي نزاعات إيران مع العالم العربي.
لكن إيران في خطابها الودود تسعى إلى القفز من فَوقِ تلالٍ من الملفّات التي كانت سببًا في توتّر العلاقات العربية-الإيرانية، بما في ذلك قطع العلاقات الديبلوماسية مع بعض البلدان العربية.
ولئن شكت بيانات جامعة الدول العربية من غياب المنطقة عن المفاوضات الدولية بشأن برنامج إيران النووي، وغياب مفاوضات بشأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها المُزعزِعة للاستقرار في المنطقة، فإنَّ التوجّهات الإيرانية الجديدة صوب المنطقة لا تنطلق من أيِّ تغييرٍ في سياسة طهران الخارجية المتعلّقة بملفّات النزاع المُنوَّه عنها.
لن يكونَ كشفًا أن إيران تسعى إلى فتحِ صفحةٍ جديدةٍ مع مصر والمغرب بعد أن اعتبرت أن اتفاق بكين مع السعودية والتحسّن الكبير في علاقاتها مع الإمارات يتيح الدفع بتجارب في هذا الصدد مع القاهرة والرباط.
ولن يكونَ كشفًا أن مصر والمغرب، كما السعودية والإمارات، تُدركان مناورات إيران لجهة حاجاتها الظرفية لتصفير المشاكل مع دول الجوار والدائرة العربية، وأنه لا يمكن الوثوق بنهائية هذا التحوّل لدى دولةٍ شديدة التحوّل والتذبذب في سياساتها.
تُدركان أيضًا أنَّ تكتيكات طهران تقوم أولًا على تراكُمِ ظروفٍ سياسيةٍ محلّيةٍ مُرتبطةٍ خصوصًا بالتحضير لما بعد المرشد علي خامنئي، وتتأثّرُ ثانيًا بظروف اقتصادية موجعة تفرضها العقوبات الأميركية، وأصابتها ثالثًا تحوّلات تجريبية في سياسة البلد الخارجية باتجاه خيارات براغماتية تقل داخلها الجرعات العقائدية.
يهمُّ طهران الوَصلَ مع مصر والمغرب. هما من الدول العربية والإسلامية الكبرى والأساسية في الشرق الأوسط وأفريقيا. ويفتح إنعاش العلاقات بين طهران والرباط والقاهرة بوابات تطبيع علاقات إيرانية أوسع مع بقية العالم العربي لا سيما في شمال أفريقيا.
صحيحٌ أنَّ لا “فيتو” مصري أو مغربي مبدئي على إعادة العلاقات الديبلوماسية مع إيران، لكن في القاهرة والرباط مَن ينتظر تبدّلًا ملموسًا في طبيعة نظام الجمهورية الإسلامية لجهة مستقبل تمسّكة بمبدَإِ تصديرِ الثورة كما تصدير التشيّع كأداةٍ من أدواتِ النفوذ التي يستخدمها لإنجازِ أجنداتٍ وخدمةٍ لأهدافٍ في السياسة الخارجية الإيرانية المُعتَمَدة.
لم تُقَم علاقاتٌ طبيعية بين مصر والجمهورية الإسلامية منذ قيامها في العام 1979. لا بل إنَّ مصرَ اتّخذت موقفًا في منحها الشاه محمد رضا بهلوي اللجوء السياسي لطالما اعتبرته طهران مُعاديًا ومُبرِّرًا لقطع العلاقات مع القاهرة. ولئن تراقب القاهرة تطوّر العلاقات السعودية-الإيرانية ومدى التزام طهران بروحية اتفاق بكين، لكن الواضح أن مصر لا تندفع بتسرّع لمسح عقود من القطيعة والتوتر من دون استنتاجِ تغيُّرٍ حقيقي وجدّي وذي مصداقية في مقاربات إيران الطارئة حيال المنطقة.
لكن حال العلاقات الإيرانية مع المغرب تبدو أكثر نفورًا في مسارها المُتوتّر، لا سيما في مفاصل محدّدة من تاريخ العلاقة بين البلدين منذ قيام جمهورية الخميني في إيران.
لم تقم العلاقة على ودٍّ بين الجمهورية الوليدة والمملكة التي كان عاهلها الراحل الحسن الثاني يمتلك علاقات حميمية مع إيران التي كان يقودها الشاه الراحل. وعلى الرُغم من البُعدِ الجغرافي بين إيران والمغرب، غير أن ذلك لم يَردَع طهران عن سلوكٍ اعتبرته الرباط تدخّلًا في شؤون المغرب سواء في مسألة تصدير الثورة والتشيّع والتجنيد في البلد لصالح هذا التوجّه، أو في مسألة الاعتراف بجبهة البوليساريو وتقديم الدعم التسليحي والتدريبي لدعم توجّهات الجبهة الانفصالية والتي تُنكرُ سيادة المغرب على الصحراء.
على طريقِ تطبيع العلاقات مع مصر، أعلنت طهران عن بدء تسيير رحلاتٍ سياحية إيرانية صوب القاهرة. يطل من منابر طهران مَن ينظّر للتواصل المعرفي بين الشعوب كمدخلٍ لتآلف الحكومات وتطبيع العلاقات بينها.
والواضحُ أنَّ القاهرة لن تندفعَ في العلاقات مع طهران بما يتجاوز إيقاع العلاقات الإيرانية الخليجية، وأنَّ أيَّ تطبيعٍ مقبل وجب أن يتمّ من خلال قراءةٍ مصرية لمشهد الشبكات الميليشياوية التي تمتلكها إيران في بلدان المنطقة، لا سيما العراق وسوريا ولبنان ومدى مساهمة طهران في تسهيل ولادة حلّ في اليمن.
وما تسرّبَ من طهران يُفيدُ أنَّ المغرب ليس لديه مانع، خصوصًا بعد تحسّنٍ عام طرأ على علاقات إيران مع السعودية ودول الخليج، من بحث سُبُل تطبيع العلاقات مع طهران.
غَيرَ أنَّ بحثَ هذا الملف الإشكالي يتطلّبُ جلاءَ موقفٍ إيراني جديد يجزمُ في موضوع وقف تصدير الثورة والتشيّع إلى المغرب، ويوقِفُ التدخّلَ في شأن الخلافات المغربية-الجزائرية ويوقف دعم جبهة البوليساريو بالسلاح والتدربب الذي ثبت تورط “حزب الله” اللبناني فيه.
وما تسرّبَ مغربيًا ليس رسميًا ولا يُعبّرُ عن موقف الحكومة في الرباط، لكنه يكشف عن موضوعية وبراغماتية مغربية لجهة عدم المطالبة بموقف داعم للرباط في موضوع الصحراء، بل بحيادٍ ونأيٍ بالنفس يضع حدًّا لانحيازٍ سياسي وديبلوماسي ولوجيستي عسكري ضد مصالح المغرب.
ولئن تسعى الدول إلى تحقيق مصالحها، غير أنه حريّ ببلدان المنطقة ألّا تكتفي بما يُمكنُ ترميمه من تصدّعاتٍ في العلاقات الثنائية لهذا البلد أو ذاك مع إيران، وهذه أمورٌ يَسهلُ على طهران تقديمها. وما السجالُ بين إيران من جهة والسعودية والكويت من جهة ثانية بشأن “حقل الدرة”، إلّا مثالٌ عن التباسٍ في رؤية طهران للعلاقات الحميدة مع الجوار.
وجب في هذا السياق التمسّك بالموقف العربي العابر للحدود المُطالِب بأن تكونَ المنطقةُ شريكًا في أيِّ مفاوضاتٍ تتعلّقُ ببرنامج إيران النووي طالما أنَّ للأمر تداعياتٍ مباشرة على أمن بلدانها، وأن لا يُسمَح لطهران بترتيب علاقاتها مع الدول العربية بالمفرّق فيما الميليشيات التابعة لها أو المتحالفة معها، سواء تلك المحلية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أم تلك المُستَورَدة من أفغانستان وباكستان وغيرهما، تتحكّم بمسارات دول في المنطقة ومصائرها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)