لبنانُ المُحاصَر: إلى أَين؟

الدكتور ناصيف حِتِّي*

لا نُغالي إذا قُلنا أنَّ لبنانَ يَعيشُ وَضعًا مَفتوحًا على المَجهول أو على سيناريوهاتٍ مُختَلفةٍ ومُتَناقِضَةٍ تتعلَّقُ بالغد، عندما يأتي ذلك الغد: حَربٌ على الحدودِ من جهة، وأزمةٌ مُتَعَدِّدةُ الأوجُهِ والأبعادِ والاحتمالاتِ والتداعياتِ في الدّاخلِ من جهةٍ أُخرى.

فالحَربُ المفتوحة في الزمان والمكان، التي تشنّها إسرائيل على قطاعِ غزّة واستراتيجية “وحدة الساحات” التي رَبَطَت قتالَ الجَبهَتَين الغزّاوية واللبنانية، لا أحدَ يدري بَعد كيفَ ومتى ستتوقّف. كثيرةٌ هي الأسئلةُ المَطروحة والسيناريوهات التي يحملها الجوابُ عن كلِّ سؤال. الهدنةُ، التي يُفتَرَضُ أن تُقام خلال شهر رمضان والتي من المُمكن أن تؤدّي إلى أن تكونَ هدنةً مُطَوَّلة لشراءِ الوقتِ والبحثِ عن تسوية، ليست بالأمرِ السهل مع الأهدافِ التي رفعتها إسرائيل لتلك الحرب: حَربُ الإبادة والتهجير التي تشنّها  ضد قطاع غزة. اهدافٌ لا يُمكنُ تحقيقها وقد بدأ الموقفُ الدولي، وتحديدًا من القوى المُؤيِّدة لإسرائيل، يَتَغَيَّر ولو ببطءٍ وبسرعاتٍ مُختلفة لوَقفِ تلك الحرب عبرَ صِيَغٍ ما زالت تُناقَش وتتغيَّر. أضِف إلى أنَّ الهدنة في غزة قد لا تمنعُ حصولَ انفجارٍ، يُطيحُها بالطبع، في الضفة الغربية مع تزايد التوتّر وأعمال العنف الإسرائيلية من القوى الرسمية ومن المستوطنين بشكلٍ أكثر ازديادًا، ضدّ المواطنين الفلسطينيين. والأخطرُ هنا هو احتمالُ اشتعال التوتّر عبرَ ما تقومُ وتُهدّدُ به القوى الدينية المُتَشَدّدة والمتزايدة عددًا وقوّةً في إسرائيل بشكلٍ عام، وخصوصًا ضدّ المسجد الأقصى. ونُذَكِّرُ بهذا الصدد بما حصل في أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٠ وأُطلِقَ ما عُرِفَ بانتفاضة الاقصى، الأمرُ الذي قد يُطيحُ الهدنةَ المُنتَظَرة، ويزيدُ من حدّة نار الحريق الحاصل في الأراضي المحتلة، وبالطبع على الجبهة اللبنانية.

تعتبرُ إسرائيل أنَّ التوصّلَ إلى تسويةٍ حولَ جبهة غزّة، أيًّا كانت طبيعتها، لا يوقف حربها على الجبهة اللبنانية، إذ لا عودةَ إلى الوضع الذي كان قائمًا على الحدود مع لبنان حتى السادس من تشرين الأول (أكتوبر) عشيّة اندلاعِ الحرب على غزة: فالتسوية على جبهة غزة متى حصلت، لا تعني العودةَ إلى اعتمادِ قواعدِ اللعبة التي كانت قائمة على الجبهة اللبنانية، فلا ارتباطَ بهذا الخصوص بين الجبهتَين، إلّا ربّما في شأن الهدنة المؤقتة، وهذا أيضًا غير مؤكّد، كما يُكرّرُ المسؤولون الإسرائيليون. وهذا ما يُفسّرُ بشكلٍ خاص مهمّة المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتين إلى لبنان للبحث في إرساءِ مَسارِ تهدئةٍ يقومُ على سلّةٍ من القواعد والأهداف يلتزمُ بها طرفا الصراع على الجبهة اللبنانية. وهذا ليس بالأمر السهل، لا بل إنه شديدُ التعقيد في ظلِّ المُعطَيات التي أوجدتها الحرب على غزة واحتمالاتها المُتعدّدة وانعكاس ذلك على الوضع على الجبهة اللبنانية. رُغمَ ذلك يبقى سيناريو التوصّل إلى قواعد جديدة ناظمة للعلاقات على الحدود أمرًا غير مُستَبعَد ولو إنّه شديدُ التعقيد في ظلِّ المُعطَيات الجديدة التي خلقتها الحرب المستمرّة على غزة، طالما لم يتمّ التوصّلُ أيضًا إلى إخمادِ الحريق ولو في مرحلةٍ لاحقة على الجبهة الغزّاوية. هناكَ أحاديثٌ عن عمليةِ إطلاقِ مَسارٍ للتوصّلِ الى تفاهُمٍ جديد، يُذكّرُ ب”تفاهم نيسان/إبريل” في العام ١٩٩٦ والذي جرى التوصّلُ إليه بعد عملية “عناقيد الغضب” الإسرائلية ضد جنوب لبنان ومجزرة قانا. بالطبع ستكونُ عناصِرُ وقواعدُ التفاهُمِ الجديد مُختلفةً عن تفاهُمِ  ١٩٩٦ بسببِ المُتغيّراتِ العديدة التي حصلت. تفاهُمٌ سيكون بدون شكّ عاملًا مُسَهِّلًا ومُحَفِّزًا لإطلاقِ عمليةِ تفاوُضٍ ل”تثبيت” الحدود البرّية اللبنانية-الإسرائيلية وإيجادِ “صيغةٍ ديبلوماسية” للتعامُلِ مع مسألتَي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلتّين.

أفكارٌ ومُقترحاتٌ ما زالت في بداياتها، ولا يعلَمُ أحدٌ متى يتمّ التوصّلُ إلى خواتيمها في ظروفٍ شديدة التعقيد على الجبهتَين الفلسطينية واللبنانية وعلى الترابُطِ بينهما .

في خضمِّ ذلك كلّهُ يجري ترحيل الأزمة الداخلية اللبنانية، التي أشرنا إليها، في أفقٍ زمنيٍّ مفتوح رُغمَ مخاطر استمرارها على الوضع اللبناني، إلى أن تتمَّ تسويةُ المسألة الخارجية (الحرب على غزة ووقفها وانعكاساتها اللبنانية). ولا بدَّ في هذا الخصوص من إدراجِ ملاحظةٍ أساسية قوامها أنَّ الدولَ عندما تواجهُ أزمةً خطيرة على صعيدِ أمنها الوطني، بمختلفِ أوجهِ هذا الأمن، تُسارِعُ إلى إعادةِ تشكيلِ السلطة، فما بالك إذا كانَ هناكَ فراغٌ في السلطة، وذلك  للتعامل مع التحدّيات التي يفرضها هذا الحوار المباشر. فإعادة تشكيل السلطة في لبنان من خلالِ ثُلاثية انتخابِ رئيسٍ للجمهورية وتشكيلِ حكومةٍ تُعرَف ب”حكومة مُهِمّة” تكون بمثابةِ “فريق عمل”  مع الرئيس وبلورة برنامجٍ إصلاحي إنقاذي يكون بمثابةِ خريطةِ طريقٍ للعمل على إنقاذِ البلد من أزمته الداخلية والتعامل بشكلٍ فعّال مع كافةِ أوجه التداعيات والانعكاسات للأزمة الخارجية الضاغطة والمُحاصِرة للبلد المعني، أمرٌ أكثر من ضروري رُغمَ العوائق الكثيرة المعروفة أمامه .

فبقدر ما تزداد الأزمة “الخارجية” حدّةً وتعقيدًا بقدرِ ما يجب الإسراعُ في العملِ على تسويةِ الأزمة الداخلية من خلالِ إعادة تشكيل السلطة في الداخل والخروج من حالةِ الفراغِ القاتل. ولا يجب ان ننسى انَّ الانتظار، على أساسِ مَنطِقِ القَدَرِية السياسية الناظم للحياة السياسية في لبنان والذي يُراهن دائمًا على استيرادِ الحلولِ من الخارج، وليس بلورتها وطنيًا، هو أسرعُ طريقٍ للانهيار. فهل نَتَّعِظُ في لبنان قبل فوات الأوان؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى