مياهٌ غازِيّة

بقلم راشد فايد*

أكثر من 90 تجمّعاً شعبياً حاشداً غطت مدن فرنسا الكبرى اعتراضاً على “قانون الأمن الشامل” الذي يُوصَف بأنه ينتهك الحريات ويُقنّن عنف الشرطة، ويُجرّم التقاط صور وفيديوهات لقوات الامن، بنيّة فضح تجاوزاتها. ويقول المعارضون أن خطر هذا القانون مُستقبلي، حين تُرفع تدابير الحجر، وتكشف نسبة عالية من البطالة، والأزمات الإجتماعية المختلفة، فينزل المواطنون إلى الشارع، وتقع المواجهات مع الشرطة وانتهاكاتها.

 قبل ذلك، تحديداً قبيل نهاية العام 2018، كانت لـ”السترات الصفر” جولاتها، أيام السبت، للتنديد بارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة، ثم امتدت مطالِبها لتشملَ إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحُكومة.

يتظاهر الفرنسي ضد الحكومة، ويُواجه سلطة القانون إن جارت عليه، ولا يتهاون مع انتهاك الشرطة لحقّه في التعبير، تحت عنوان: فرنسا دولة قانون. لذا يعرف حقوقه وواجباته وعاند فيها. وهذه ليست حالة لبنانية. فكل ضجيج الانتفاضة صار طي الايام، ولا تغرّنك التجمّعات المُتقطّعة، بمواجهة مصرف لبنان، كأنها تكليف من جهة ما، بالإستسلام أمام كل أفاعي عصابة المال والسياسة، وتركيز الهجوم على المصرف وحاكمه.

 ليس في الأمر دفاع عن منتفخي الجيوب، فحصرُ الإشتباك الإجتماعي برياض سلامة، يواري حقيقة، وهي أن الجميع مُتورّطٌ في “الفساد الوطني”، حتى نحن، ضحاياه، لأننا بصَمتِنا المُتمادي على المُحاصصات، ساهمنا في التغطية عليها، وبرّرناها بلا مبالاتنا، وبالتضامن الطائفي، وبانتعاشنا برذاذها المالي. أليس من أمثالنا الأهلية “مين ما تزوّج إمّي بيكون عمّي”، و”الإيد اللي ما بتقدرلها بوسها وادعِ عليها بالكسر”؟

 ذلك ان اللبنانيين ينتمون الى أنفسهم وليس إلى الدولة، لذا لا يُدافعون عنها ولا يحمون كيانها وقوانينها، ولا يهزّهم انفجار مرفأ بيروت، ويجعلهم ينزلون بزخم الى الشارع، حتى فضح المسؤولين الفعليين القادرين، بـ “رهبة السلاح”، على إدخال المواد المتفجرة التي رصدها الجيش في 57 مستوعباً ملأت المرفأ، وما انفجر يوم 4 آب (أغسطس) 2020 هو “سليل” انتهاكات متمادية لدور الدولة، ومسؤوليتها تجاه اللبنانيين، وعنهم.

فمنذ 7 أيار (مايو) 2008 الى اليوم يُفتّت “حزب الله” الدولة، ويقضم مهامها، ولا يواجهه اعتراض جدّي، بل نوع من الملامة، مرّة بحجة إنه فريق لبناني، وهو وصف رفضه قادته منذ ثمانينات القرن الماضي، ولا يزالون، ومرّة بأن سلاحه يُحلُّ إقليمياً: فيخلص الموقف إلى مزيد من تماديه في قضم الدولة.

يعترض اللبنانيون على انتهاك حرياتهم، بالصمت، وعبر وسائل التواصل الإجتماعي، ونادراً ما يفضحون الإعتداءات الشخصية الميليشياوية، كما فعلت الناشطة مريم سيف الدين، بعد اقتحام “مقاوم” بيت عائلتها في برج البراجنة واعتدائه بآلات حادّة على شقيقها، ووالدتها.

لا يؤمن اللبنانيون بالدولة، ولا يرونها في يومياتهم، وليست لديهم إرادة الحرص عليها، وتمتين بنيانها، لذا لا يتأثّرون بما تقرّر، ولو أضرّ بهم، ويسكتون عمّن يستنزف بنيانها ومالها وثروات بنيها، كأنهم شعبٌ بلا دولة، أو كالمياه الغازيّة ما أن تفور حتى تهدأ، وبلا مكاسب.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى