مؤامرة الصمت

بينما تتحدث إسرائيل علنًا عن التطهير العرقي الذي يتعرّض له الفلسطينيون في غزة، لا يمكن رؤية أو سماع أي انتقاد من الدول الغربية.

الحرب على غزة: هدفها ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء والخليج

مايكل يونغ*

بذلت إسرائيل جهودًا كبيرة على مدى العقود الماضية لإعادة تعريف تطهيرها العرقي للسكان العرب في فلسطين في العام 1948 باعتباره نتيجة لمغادرة العرب طوعًا ديارهم، أو نتيجة طاعتهم لأوامر قادتهم بالمغادرة. وبهذه الطريقة، سعى الإسرائيليون إلى تقويض الاتهام بأن دولتهم بُنِيَت على أُسُسِ ما يُعتَبَرُ جريمة ضد الإنسانية. ومع ذلك، فإن النقلَ القسري للسكان الفلسطينيين في غزة إلى مصر يخضع اليوم للمناقشة العلنية من قبل كبار القادة الإسرائيليين والمسؤولين السابقين.

ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” هذا الأسبوع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سعى إلى إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر لقبول اللاجئين من غزة. وفي حين حاول أحد الديبلوماسيين الغربيين وَصفَ ذلك بالقول إن نتنياهو أراد أن يستقبل المصريون الفلسطينيين “على الأقل أثناء الصراع”، فإنَّ الآثار المترتّبة على هذا التحذير سخيفة. ليس لدى نتنياهو أي اهتمام على الإطلاق برفاهية السكان الذين ارتكب جيشه بحقهم مذبحة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. ما يريده هو أن تفتَحَ مصر الباب حتى تتمكن إسرائيل من إغلاقه بشكلٍ دائمٍ بمجرد خروج الفلسطينيين. هذا ما حدث في العام 1948، والأحمق فقط هو مَن يُصدّقُ أن ذلك لا يمكن أن يحدث مرة أخرى.

وتأتي ضغوط نتنياهو وسط تقارير تفيد بأن وزارة المخابرات الإسرائيلية أصدرت وثيقةً تُدرِجُ فيها سلسلةً من الخيارات المفتوحة أمام السلطات الإسرائيلية للتعامل مع الفلسطينيين في غزة. ومن بينها أن تقوم إسرائيل “بإجلاء سكان غزة إلى سيناء” و”إنشاء منطقة مُعَقَّمة بكيلومترات عدة داخل مصر وعدم السماح للسكان بالعودة إلى النشاط أو الإقامة بالقرب من الحدود الإسرائيلية”. وتستمر الوثيقة في أنه يجب على إسرائيل أن تسعى جاهدة إلى حشد الدعم العالمي لمثل هذا المشروع، وخصوصًا من الولايات المتحدة. وحتى مع الاعتراف بوجود ترجمة غير دقيقة من ترجمة “غوغل”، فإنَّ دقة التوصية لا جدال فيها بالنظر إلى أنَّ نتنياهو يُرَوِّجُ للفكرة نفسها.

ولهذا السبب على وجه التحديد، فإنَّ ادعاءات إسرائيل بأنَّ وثيقة وزارة المخابرات هي مجرد “ورقة تصوّر”، أو ممارسة افتراضية، غير قابلة للتصديق. إن العديد من الأفكار غير المسبوقة لدى الحكومة تبدأ تحت الرادار، وذلك على وجه التحديد لأنَّ هذه طريقة بيروقراطية معقولة لضمان عدم إسقاطها على الفور من قبل البيروقراطيات المتنافسة. والحقيقة أنه من المثير للصدمة في حد ذاته أن تعترف إسرائيل بأن التطهير العرقي أصبح الآن جُزءًا من أدواتها المُتَصَوَرة للفلسطينيين.

وإذا كانت هناك شكوكٌ حول هذا الأمر، فإنَّ مقالًا مُثيرًا للاشمئزاز بقلم “جيورا إيلاند”، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، لا بدَّ أن يضعَ حدًّا لهذه الشكوك. إقترح إيلاند “خيارات” خاصة به لمعالجة مشكلة الفلسطينيين في غزة. أحد هذه الأمور هو “تهيئة الظروف التي تُصبِحُ فيها الحياة في غزة غير مستدامة” بحيث “ينتقل جميع سكان غزة إما إلى مصر أو إلى الخليج”. في نهاية المطاف، يجب أن تصبح غزة “مكانًا لا يمكن أن يوجد فيه أي إنسان، وأنا أقول هذا كوسيلة وليس غاية. أقول هذا لأنه لا يوجد خيارٌ آخر لضمان أمن دولة إسرائيل. نحن نخوض حربًا وجودية”.

مما لا شك فيه أنَّ إيلاند سيستمر في تلقي الدعوة من قبل مؤسسات الفكر والرأي والجامعات في جميع أنحاء العالم، على الرُغم من أن مقالته تؤيد جرائم الحرب (العقاب الجماعي؛ والتسبب عمدًا في معاناة كبيرة للجسد والصحة؛ وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها بشكلٍ لا تبرره الضرورة العسكرية؛ وانتهاكات الترحيل والتهجير غير القانونية) والجرائم ضد الإنسانية، وفقًا لتعريف التطهير العرقي الذي اعتمدته لجنة خبراء الأمم المتحدة التي نظرت في انتهاكات القانون الإنساني الدولي في يوغوسلافيا السابقة. ولذلك فإنَّ الاعتقاد السائد بين المُعجَبين بإسرائيل بأنَّ البلدَ هو نموذجٌ أخلاقي ليس فقط أمرًا مُثيرًا للضحك، بل إنه يتناقض مع أنشطة وتأملات المسؤولين الإسرائيليين، الحاليين والسابقين.

إنَّ المُبرِّرَ الذي ساقه إيلاند ـالأمن ـ مثيرٌ للاهتمام، لأنه المُبرّرُ الذي يلجأ إليه الأوغاد في كلِّ مكان عندما يُبرّرون الجرائم الفظيعة. ولكي تصبح إسرائيل آمنة، فلا بدَّ من دفع نحو مليونين نسمة من سكان غزة إلى الصحراء، وكأنهم قبيلة ضائعة. فمن أجل قتل مسؤولٍ واحدٍ من “حماس” وتعزيز الأمن الإسرائيلي، فلا بدَّ من محو حيٍّ كاملٍ في مخيم جباليا للاجئين، مع وقوع خسائر فادحة في الأرواح. ومن أجل حماية إسرائيل، يُسمَحُ لعصابات الحراسة الدينية المسلحة في الضفة الغربية -وهم أشخاصٌ إذا كانوا في بلاد أخرى يتم وضعهم على قوائم مراقبة الإرهاب- بإجبار القرويين الفلسطينيين على ترك منازلهم أو قتل الفلسطينيين العُزَّلِ الذين يقطفون الزيتون.

والأمرُ المُثيرُ للدهشة إلى حدٍّ كبير هو أن الدول الغربية شاهدت كل ما حدث، ولكنها استخدمت تصرفات “حماس” الشريرة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كذريعةٍ لعدم القيام بأي شيء حيال ذلك. وحتى في الوقت الذي تذبح وتقتل إسرائيل آلاف الأشخاص في غزة، مع وجود كثيرين آخرين تحت أنقاض المباني المنهارة، فإنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين إما رفضوا فرض وقف لإطلاق النار أو استمروا في التعبير عن غضبهم إزاء الوفيات الإسرائيلية، في حين بدوا غير متأثرين بضحايا الانتقام الإسرائيلي. ويأتي هذا على الرُغمِ من التصريحات المُذهلة التي أدلى بها مسؤولون عسكريون إسرائيليون مفادها أن إسرائيل “تُركّز [في قصف غزة] على الضرر وليس على الدقة”.

ما قد ينشأ هو لحظة تأسيسية لهيمنة الغرب على الشؤون العالمية. لا شك أنَّ أوكرانيا كانت الضحية الأولى للحرب في غزة، حيث صوَّرت الدول الغربية الدفاع عنها باعتباره مُعادلًا لرفض ذلك النوع من الاسترضاء الذي سلّم أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا النازية. لقد انهارت الأسس الأخلاقية للسرد الغربي بشأن أوكرانيا مع المباني السكنية في غزة. ومَن سيُصدّق الخطاب الأميركي أو الأوروبي حول الشر الروسي مرة أخرى في حين أنَّ العديدَ من الدول الغربية غير مبالية بعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها القوات المسلحة الإسرائيلية؟ وفي هذا السياق، ينبغي على الأميركيين أن يكونوا حذرين. ومن الممكن أن يجدوا أنفسهم معزولين عندما يقومون بجولات على الحلفاء العالميين لمساعدتهم على منع الغزو الصيني في نهاية المطاف لتايوان.

يؤلمني أن أذكر الحجة الأكثر تبسيطًا التي يسمعها المرء في مثل هذه المواقف، وهي أن الغرب عنصري عندما يتعلق الأمر بتمييز العرب عن تلك الشعوب التي يعتبرونها أكثر غربية، مثل الإسرائيليين. لا أجد هذا الخط إشكاليًا فحسب على العديد من المستويات، ولكن نظرًا إلى الإحتجاجات المنتشرة في العواصم الغربية ضد ما تفعله إسرائيل في غزة، لا يسعني إلّا أن أعترف بأنَّ العديدَ من الأميركيين والأوروبيين، ناهيك عن عدد مفاجئ من اليهود بينهم، نزلوا إلى جانب الحق في الدفاع عن جميع الضحايا، من دون استثناء، منذ بدء هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر).

مع ذلك، فإنَّ النُخَبَ في الولايات المتحدة وأوروبا لديها منظورٌ مختلف، وهو منظورٌ يواجه تحدّيًا من قِبَل شرائح متنامية من سكانها. وهو المنظور الذي ينظر إلى إنشاء إسرائيل باعتباره تعويضًا عمّا قد يُعَدُّ أعظم جريمة في التاريخ: المحرقة؛ ويَعتَبرُ إسرائيل امتدادًا للغرب وحليفًا يمكن الاعتماد عليه طوال نصف القرن الماضي؛ وهذا ينظر أيضًا إلى إسرائيل على أنها دولة حديثة وديموقراطية وليبرالية وسط بحر من التعصّب والتخلف. يمكن بالطبع التشكيك في أجزاء كثيرة من هذه النسخة، لذلك عندما نسمع المستشار الألماني أولاف شولتس يُعلن أن “إسرائيل دولة ديموقراطية تسترشد بمبادئ إنسانية للغاية، لذلك يمكننا أن نكون على يقين من أن الجيش الإسرائيلي سيحترم القواعد التي تنشأ عن القانون الدولي في كل ما يفعله”، يجعلك تتساءل عما إذا كان المستشار الألماني يُصدّق بالفعل مثل هذا الهراء، أو أنه يمتلك في الواقع تلفزيون.

ومع تسبب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في انقسام المجتمعات الغربية على نحوٍ متزايد، فمن المحتم أن يتغيّرَ المزاج السائد بين النخب في أوروبا والولايات المتحدة ببطء. لكن في الوقت الحالي، لا يبدو مثل هذا التحوّل مرئيًا عن بُعد. والدليل على ذلك هو أن الإسرائيليين يتحدثون الآن بصراحة عن التطهير العرقي لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، بينما تواصل الدول الغربية الانخراط في مؤامرةِ صمتٍ مُخزية.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى