تشي غيفارا مثالٌ يُحتذى به لكل من يَتَوَلّى مسؤولية عامة

بقلم السفير جان معكرون*

إنها قصة واقعية غنية في مضمونها، ومُعبّرة في رسالتها، ومُوَجَّهة إلى الحكّام وإلى كل من يتولّى مسؤولية عامة. بطلُها ليس كغيره من الأبطال لأنه حقيقي، إن قالَ فعلَ، وإن وعدَ نفّذ. إنه طبيبٌ ساعد الفقراء ومُثقّفٌ تعاطف مع العمّال والفلاحين. إنه الأكثر شعبيةً من بين زعماء العالم الذين دخلوا التاريخ، والأبرز حضوراً في الذاكرة الأممية والإنسانية، وهو الأعظم تمثيلاً للآمال المشتركة بين الشعوب. إنه “الكومندانتي” تشي غيفارا.

وقبل أن ندخل في تفاصيل القصة لا بدّ أن نقدّم لكم راويها، وهو البروفسور ريكاردو سلمان، الكوبيّ من أصل لبناني، من قرية راسنحاش – البترون، الذي هاجر صغيراً مع والديه وإخوته إلى كوبا في بداية القرن العشرين، وهو كاتب ومؤرخ وشقيق الكولونيل أوجينيو سلمان، الطبيب الشخصي لفيدال كاسترو.

عاصر البروفسور سلمان تشي غيفارا وكان شاهداً على تصرّفاته الغنية بالمعاني الإنسانية والخلقية ولقد سردها لي حرفياً، حين كنتُ سفيراً لللبنان في هافانا، وهي الآتية:

عندما أصبح تشي غيفارا في العام 1961 وزيراً للصناعة، شاهد البروفسور سلمان عاملاً يقوم بإصلاح أبواب منزل تشي في حضور المناضلة في الثورة الكوبية سيليا سانشيز (Celia Sanchez) المُشرفة على سير العمل، والتي لاحظت أنّ مفروشات غرفة الجلوس قديمة ومُمَزَّقة ومُستَهلَكة. فاقترحت على زوجة تشي “أليدا” (Aleida) تبديل هذه المفروشات فوافقت. إثر ذلك، إتصلت سيليا بمستودع الحكومة وطلبت تزويد المنزل بطاقم مقاعد جديدة وهكذا حصل. عاد تشي عصراً إلى المنزل ولاحظ هذا التغيير، فسأل زوجته فرَوَتْ له ما حصل، عندها طلب منها أن تتصل بـسيليا وتقول لها إنه بإمكانها أن تجري في منزلها ما تشاء لكن في منزله فهو الذي يُقرّر. كما طلب إعادة المفروشات الجديدة إلى المستودع واسترجاع القديمة، وبعد أن تحقّق طلبه، وضع تشي القلنسوة أو الـبيريه (Beret) على رأسه وجلس وراح يقرأ. وعلّق البروفسور سلمان قائلاً: إنّ تشي هكذا كان في عاداته وتصرفاته بسيطاً ومتواضعاً.

أما الحدث الأبرز والأكثر أهميةً فهو أنه خلال تولّي تشي وزارة الصناعة، زار معملاً للبسكويت في مدينة سانتا كلارا، وبينما كان يتفقّد العمّال، أهدى مدير المعمل أربع علب بسكويت إلى سائق تشي لكي يضعها في صندوق سيارته. وبعدما أنهى تشي الزيارة، أخبره السائق بهدية مدير المعمل فقام باستدعائه سائلاً إياه، هل تعطي لكل من زار المعمل هدية مماثلة، فأجاب لا “كومندانتي”، فعندها، طلب تشي إعادة العلب إلى المعمل.

إنه تصرُّفٌ مُعبِّر جداً يُمثّل في ثناياه عقلية رجل الدولة الشريف، والمُؤمن بالمساواة بين الجميع، والمُلتزم قولاً وفعلاً بأنّ المال العام هو لمصلحة الشعب، وبأنه من واجب صاحب السلطة ألّا يستغلّ منصبه للحصول على منفعة خاصة. وإذا كان تشي غيفارا رفض إهداءه أربع علب بسكويت، فإننا نشعر بخجل كبير عندما نرى بعض الحكّام يُباشر مسؤولياته بمحفظة مالية متواضعة لكن يغادرها بمحفظة مالية مليئة بسندات الملكية ودفاتر التوفير. وإذا اعتقد هؤلاء المسؤولون أنهم قد ضمنوا مستقبلهم أو مستقبل أولادهم، فإنّ عليهم أن يعرفوا أنّ وصمةَ عارٍ قد طُبعت على جبينهم، وإنّ لطخة الفساد قد لوّثت سمعتهم، وسيكونون موضوع سخرية واحتقار من الجميع لأنهم أخطأوا في حق الوطن وحق أبنائه وهذه خطيئة لا تُغتفر. ولإيفاء هذا الحدث حقه، نرى أنه يتوجب على كل حاكم أن يهتدي بهذا الأداء المميز لتشي غيفارا، وكم يفتقر عالمنا ووطننا إلى قادة من هذا المستوى الراقي من رجال الدولة في زمن تؤكد فيه الواقعات السياسية أنّ وصول هكذا قادة إلى سدّة الحكم إمكانية بعيدة المنال. ومن خلال هذه المقاربة، أرى من المفيد الإشارة إلى هذه المقولة المهمة للمؤرخ الاسكتلندي توماس كرلايل (Thomas Carlyle): “تاريخ العالم ما هو إلاّ سيرة رجال عظماء” (The history of the world is but the biography of great men).

إنّ الرجال العِظام (أو النساء العظيمات) هم الذين تركوا تأثيراً إيجابياً في مجتمعهم لجهة سلامته ورفاهيته وتطوره. إنهم الحكماء في استعمال السلطة وهم الأشرف والأعرف والأجرأ.

وللإستزادة في الإفادة من سيرة حياة تشي غيفارا، نودّ الإشادة هنا بميزة مُشرِّفة أخرى في أدائه اليومي، وهي إيمانه بأن لا فرق في الأهمية والقيمة المعنوية بين الأعمال اليدوية والأعمال الفكرية. أي أنه لم يُميّز أو يفرّق بين الشخص الذي يقوم بعمل يدويّ في ورشة ما والشخص الذي يتولّى عملاً فكرياً كالأستاذ الجامعي أو المدير الإداري على سبيل المثال. فكلاهما يتساويان في نظره من حيث المكانة الإجتماعية والإنسانية. ولقد كان تشي صادقاً في قناعته هذه لأنه شارك فعلياً عندما كان وزيراً للصناعة في أعمال البناء وصيانة الطرقات مع العمّال، وفي دوام يوميّ كامل، لكي يشهد ويبرهن أنّ الإنسان قيمة بحدّ ذاته بصرف النظر عن طبيعة عمله. ومن حسنات البحث في خطابات العظماء في التاريخ، لفت انتباهي هذا الاقتباس الجميل للرئيس الأميركي فرانكلين روزفِلت  في العام 1940 والذي يتوافق ويتناغم مع مبدأ تشي في عدم التفرقة بين الأعمال اليدوية والأعمال الفكرية: “يتمتع العامل بالكرامة الإنسانية عينها وأمن الوظيفة ذاتها اللتين يتمتع بهما المهندس أو المدير أو المالك”.

أي أنّ العامل يتساوى مع المهندس والمدير وصاحب العمل من حيث الكرامة الإنسانية. وإذا أُجيز لنا أخيراً أن نختصر حياة تشي غيفارا فنقول إنه لم يسعَ إلى تبوّؤ المناصب الرفيعة بل سعى إلى نصرة الفلاحين والعمّال، وإنه لم يهتمّ بمصالحه الخاصة بل بهموم ومشاكل الناس. كما كان صادقاً مع نفسه لأنه التزم بمبادئه، وقاتل في سبيل تحقيقها حتى النصر والإستشهاد. والأهم من ذلك أنه كان متقشّفاً في حياته الخاصة والعامة، والتقشف صفة جوهرية في شخصية الحكّام لأنها تعني الإبتعاد من أي جاهٍ أو امتياز.

  • الدكتور جان معكرون هو سفير لبنان السابق في كوبا.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى